الحروب الصليبية

السبت، 8 يناير 2011

تسوية الصفوف
دراسة فقهية حديثية

تأليف
محمد حامد محمد




إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سئيات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (آل عمران/102) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( النساء/1
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( الأحزاب/70 -71
ثم أما بعد ......
فإن الصلاة أعظم قواعد الإسلام , وأرفع أعمال الإيمان , وأقرب وسيلة إلى الرحمن, وهي مفزع التائبين, وملجأ الخائفين, وبضاعة العاملين , وقرة أعين العابدين تجلو صدأ قلوبهم بأنوارها, وتهتك حجب نفوسهم بأسرارها, وترشدهم بمنارها إلى فَخَار مقاصدهم وأغوارها .
فهم في رياض أنسها يترددون, وفي ظلال أشجارها يتقلبون, ومن طيب نسيمها يتنسمون, وإلى مرافئها يتسنمون, وفي جميع ملاذها يتفكهون ويأكلون ويشربون .
قال الإمام الحافظ العلاَّمة ابن القيم رحمه الله تعالى :
الصلاة قد وُضعتْ على أكمل الوجوه وأحسنها التي تعبَّد بها الخالق تبارك وتعالى عباده من تضمَّنها للتعظيم له بأنواع الجوارح من نطق اللسان وعمل اليدين والرجلين والرأس وحواسه وسائر أجزاء البدن,كلٌ يأخذ لحظه من الحكمة في هذه العبادة العظيمة المقدار, مع أخذ الحواس الباطنة منها,وقيام القلب بواجب عبوديته فيها.
فهي مشتملة على الثناء والحمد والتمجيد والتسبيح والتكبير وشهادة الحق والقيام بين يدي الرب مقام العبد الذليل الخاضع المدبَّر المربوب , ثم التذلل له في هذا المقام, والتضرع, والتقرب إليه بكلامه ,ثم انحاء الظهر ذلاً له وخشوعاً , واستكانة , ثم استوائه قائماً ليستعد لخضوع أكمل له من الخضوع الأول, وهو السجود من قيام , فيضع أشرف شئ فيه وهو وجهه في التراب خشوعاً لربه , واستكانة وخضوعاً لعظمته وذلاً لعزته , قد انكسر له قلبه ,وذلَ له جسمه , وخشعت له جوارحه,ثم يستوي قاعداً يتضرع له ويتذلل بين يديه ويسأله من فضله , ثم يعود إلى حاله من الذل والحشوع والاستكانة, فلا يزال هذا دأبه حتى يقضي صلاته , فيجلس عند إرادة الانصراف منها مُثنياً على ربه , مسلماً عل نبيه, وعلى عباده, ثم يصلي على رسوله, ثم يسأل ربه من خيره وبرّه وفضله, فأي شئ بعد هذه العبادة من الحسن, وأي كمال وراء هذا الكمال, وأي عبودية أشرف من هذه العبودية . اهـ [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - دار الكتب العلمية 2/2 ].
فلما كانت هذه منزلة الصلاة وفضلها كان ولابد من آدائها على الوجه الأكمل وعلى النهج النبوي السوي .
والصلاة عماد الدين  والركن الركين , وأساس هذا الدين, فكان من المتحتم المحافظة عليها .
ومن وسائل المحافظة على الصلاة : تسوية الصفوف.
هذه السنة التي أصبحت مهجورة بين المسلمين , وللأسف بين بعض الملتزمين بالسنة, إلا من رحم ربك .
ويكفي من آثار عدم تسوية الصفوف , هذا الوعيد النبوي « لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ » .
ووالله لقد تحقق وعده ,فالمرء من هؤلاء يدخل الصلاة ويخرج منها لا يدري ما قرأ إمامه في الصلاة, ولا يشعر إلا والإمام يقول : السلام عليكم ورحمة الله. وما هذا إلا لأننا ضيعنا هذا الواجب, ألا وهو تسوية الصفوف.
وأنا في هذا البحث حاولت أن ألملم خيوط هذا الموضوع وأسبكه في عِقد منظوم, وأرصعه بالجواهر النبوية, والآثار السلفية, عسى أن أكون وفيت به وأن ينال حسن القبول من الرب قبل العبد, هو ولي ذلك ونعم الوكيل وعليه توكلت وإليه أُنيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
حرر في وقفة عرفات 1431هـ






ذِكْرُ الْأَمْرِ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ



روى مسلم بسنده ,فقال:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِىِّ عَنْ أَبِى مَعْمَرٍ عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -  يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِى الصَّلاَةِ وَيَقُولُ « اسْتَوُوا وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ لِيَلِنِى مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلاَمِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » . قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلاَفاً . (حديث رقم 432)



والشاهد في الحديث : قول ابن مسعود  : يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِى الصَّلاَةِ .أي: يسوي الصفوف بيده الشريفة  .
الْمَنَاكِبُ: جمعُ مَنْكِبْ،وهو ما بين الكتف والعنق. أراد لزوم السكينة في الصلاة.
وقيل: أراد ألا يمتنع على من يجيء ليدخل في الصف لضيق المكان، بل يمكنه من ذلك.[ النهاية في غريب الحديث والأثر ( نكب ) ].
قال النووي – رحمه الله – في شرحه على صحيح مسلم(4/116ط دار الخير) : قوله: (يمسح مناكبنا) أي يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها.
ثم قال – رحمه الله- : وفيه - أي الحديث- تسوية الصفوف واعتناء الإمام بها والحث عليه. انتهى
قال ابن علان - رحمه الله تعالى - :(  يمسح مناكبنا في الصلاة) أي يسويّها بيده الكريمة حتى لا يخرج بعضها عن بعض (ويقول) حال التسوية كما هو ظاهر السياق (استووا ولا تختلفوا) بأن يتقدم منكب بعضكم على منكب بعض. يؤخذ منه أن الإمام إذا سوّى الصفوف باليد يسن له أن يقول ما ذكر، وجمعه بين الفعل والقول كما هنا، واقتصاره على القول فقط كما في أحاديث أخر مختلف باعتبار حال المخاطبين، فإذا علم اكتفاءهم بالقول لفقههم وسرعة امتثالهم اقتصر عليه، وإلا لكثرتهم أو لاختلاطهم بحديثي الإسلام محتاجين لمزيد العلم جمع بينهما .انتهى
[دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - ط دار المعرفة 3/206 ]
وقوله : (استووا) أي اعتدلوا في الصلاة بأن تقوموا على سمت واحد لأن التسوية للصفوف من شأن الملائكة ولأن تقدم البعض ربما أوغر صدور الباقين وشوش خشوعهم كما أشار إليه بقوله (ولا تختلفوا) أي لا يتقدم بعضكم على بعض في الصفوف .[ فيض القدير شرح الجامع الصغير - ط المكتبة التجارية الكبرى 1/503 ] .
قوله : (فأنتم اليوم أشد اختلافا) : قال الطيبي: هذا خطاب للقوم الذين هيجوا الفتن، وأراد أن سبب هذا الاختلاف والفتن عدم تسوية صفوفكم اهـ. وقيل: يحتمل أن المراد بأشد أصل الفعل وعدل عنه إلى ذلك للمبالغة.[ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - ط دار الفكر 3/850 ].





ذِكْرُ فَضْلِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ



روى البخاري بسنده, فقال:
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -  قَالَ :
« سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ »(حديث رقم723).
وهو عند مسلم (435) , من حديث أبي هريرة  بلفظ: « أَقِيمُوا الصَّفَّ فِى الصَّلاَةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ ».
وعند أحمد(3/179) من حديث أنس  بلفظ: « أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ إِقَامَةَ الصَّفِّ » .



قال ابن حزم –رحمه الله – في المحلى (4/55 ط دار الآفاق الجديدة ) :
تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة, فهو فرض , لأن إقامة الصلاة فرض
وما كان من الفرض , فهو فرض . انتهى
عقّب الحافظ في الفتح ( 2/257 ط دار الحديث ) على كلام ابن حزم السابق , بقوله:
ولا يخفى ما فيه ولا سيما وقد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة وتمسك ابن بطال بظاهر لفظ حديث أبي هريرة فاستدل به على أن التسوية سنة قال لأن حسن الشيء زيادة على تمامه وأورد عليه رواية من تمام الصلاة. انتهى
وردَّ البدر العيني - رحمه الله - دعوى ابن حزم , فقال: قوله: "فإنه من حُسن الصلاة " يدل على أنها ليْست بفرضِ،لأن ذلك أمر رائد على نفس الصلاة، ومعنى قوله: " من تمام الصلاة ": من تمام كمال الصلاة، وهو- أيضاً- أمر زائد، فافهم.[ شرح سنن أبي داود – ط مكتبة الرشد – الرياض 3/219 ].
وقال – رحمه الله تعالى – في شرحه على البخاري : فيه: الأمر بتسوية الصفوف، وهي من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض، لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. قال صلى الله عليه وسلم: (فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) . فإن قلت: الأصل في الأمر الوجوب ولا سيما فيه الوعيد على ترك تسوية الصفوف، فدل على أنها واجبة. قلت: هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيدا وتحريضا على فعلها، كذا قاله الكرماني، وليس بسديد. لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب، بل الصواب أن يقول: فلتكن التسوية واجبة بمقتضى الأمر، ولكنها ليست من واجبات الصلاة بحيث أنه إذا تركها فسدت صلاته أو نقصتها. غاية ما في الباب إذا تركها يأثم .انتهى [عمدة القاري شرح صحيح البخاري – ط دار إحياء التراث العربي – بيروت 5/254 ].
قال ابن بطال - رحمه الله تعالى - : " هذا الحديث يدل أن إقامة الصفوف سنة مندوب إليها، وليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضًا لم يقل، عليه السلام، فإن إقامة الصفوف من حسن الصلاة؛ لأن حسن الشىء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب، ودل هذا على أن قوله فى حديث أنس: (فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) ، أن إقامة الصلاة قد تقع على السنة كما تقع على الفريضة." انتهى [شرح صحيح البخارى - ط مكتبة الرشد 2/347 ].
قال ابن دقيق العيد – رحمه الله – في الإحكام (ص225 ط شاكر) :
وقوله  (من تمام الصلاة) يدل على أن ذلك مطلوب . وقد يؤخذ منه أيضًا: أنه مستحب , غير واجب . لقوله ( من تمام الصلاة ) ولم يقل : إنه من أركانها , ولا واجباتها. وتمام الشئ : أمرٌ زائد على وجود حقيقته التي لا يتحقق إلا بها في مشهور الاصطلاح . وقد ينطلق بحسب الموضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به . انتهى
قال زين الدين العراقي – رحمه الله – في طرح التثريب (2/530 ط الباز) :
وقد ذكر العلماء في معنى إقامة الصلاة أمورًا:
أحدها: حصول الاستقامة والاعتدال ظاهرًا كما هو المطلوب باطنًا .
ثانيها: لئلا يتخللهم الشيطان , فيفسد صلاتهم بالوسوسة كما جاء في ذلك الحديث.
ثالثها : ما في ذلك من حسن الهيئة .
رابعها:أن في ذلك تمكنهم من صلاتهم مع كثرة جمعهم , فإذا تراصوا وسع جميعهم المسجد , وإذا لم يفعلوا ذلك ضاق عنهم .
خامسها: أن لا يشغل بعضهم بعضًا بالنظر إلى ما يشغله منه إذا كانوا مختلفين, وإذا اصطفوا غابت وجوه بعضهم عن بعض وكثير من حركاتهم وإنما يلي بعضهم من بعض ظهورهم . انتهى
فتوى :
سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: عن قوم لا يسوون الصفوف في الصلاة ويتركون ثغرات بينهم؟
فأجاب بقوله: عدم تسوية الصفوف وترك ثغرات خطأ عظيم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة وقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتسويتها والتراص فيها .
 [ مجموع الفتاوى 13/49 ] .
للبحث بقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.