الحروب الصليبية

الأحد، 9 يناير 2011

التراث والإبداع ـــ حنا عَبود


تمهيد:‏

يشكل التراث، بوجهيه المادي والمعنوي، حضوراً حقيقياً. ومحاولة التخلص من إسار التراث وقوة جذبه، هي إحدى أولى العناوين التي تطرحها أي حركة تدعي الإبداع والتجديد. فالمقال الأول لكل حركة تحديثية، هو مقال الرفض للموروث المألوف. ومع أن هذا البحث مخصص لدراسة التراث باعتباره بؤرة للإبداع، فلا مانع من أن نمهد له بفذلكة سريعة، تحاول تحديد إطاره، ورسم معالمه.‏

أود قبل كل شيء، أن أميز بين "القديم" و "التراث". وهما كلمتان كثيراً ما تتركان انطباعاً بأنهما شيء واحد. والذي نراه أنهما مختلفتان من حيث السعة فقط.‏

فالقديم هو ذلك الركام الضخم مما تركته الأجيال السابقة. ولكنه، في اعتقادنا، لا يشكل تراثاً له حضوره الكينوني المتماسك. إن التراث هو ذاك "الكل" الحي. ولكن لا نقصد كل ما أنتجته الأجيال السابقة، بل نقصد بالكل ما يشكل جسداً متضافراً، يطرح عنه كل ما لا ينسجم معه، مهما رصعته أوسمة العراقة. فالكل هو ذلك "الكيان" المنسجم مع نفسه، والذي يمتلك قدرة على تحريك الواقع المعاش أدبياً وشعرياً، وعلى هذا يكون "القديم" تراكماً عشوائياً، بينما يكون التراث "كلاً" منفرزاً من القديم، يحرك الواقع الحاضر.‏

فلنتفق الآن على أن كل ما يحرك الأدب والشعر، يعتبر تراثاً، في حين نعتبر القديم كل ما سبقنا زمنياً. ويترتب على هذا، أن القديم في حالة ثبات أبدي، طالما أنه يتحدد بالزمن لا بالفاعلية، وأن التراث هو ذلك المتحرك الذي يتغير بتغير الزمن. ففي كل مرحلة من مراحل تطورنا الحديث، نلاحظ أن ثمة سيطرة لعناصر من "القديم" اتحدت بعضها مع بعض وانفرزت عن غيرها، وشكلت "كلاً" يؤثر بفاعلية في حياتنا. وأذكر على سبيل المثال، وفي مرحلة عشتها، وإن كل وعيي بها يومئذ أبعد ما يكون عن الاستيعاب والشمولية، أننا كنا نتمسك بكل ما يدل على القوة والعزة والكرامة، في أدبنا القديم، لا لشيء إلا لمقاومة المنتدبين الفرنسيين، انتشرت حكايات الزير سالم وعنترة وأبي زيد الهلالي. أمسياتنا كلها كانت تنقضي بالاستماع إلى الراوي. بل إن "سبَت" (صندوق) العروس ما كان ليقبل إن لم تلصق عليه صورة كبيرة ملونة للزير وهو يشق رأس جساس والدم متناثر من الضربة، أو صورة عنترة يبارز خصمه والهودج يحمل له عبلاه. وما إن تحقق الاستقلال حتى تلاشت هذه المظاهر تدريجياً.‏

وإذا راجعنا أدبيات العرب أيام الأتراك، رأينا التراث يجتمع حول نقطة كبيرة هي العدل، إن معظم التمثيليات التي كانت تقام، تتركز في النهاية حول ضرورة إحقاق العدل، فالتراث شيء حي يخضع للتطور والتبدل. ففي كل مرحلة زمنية تبرز معالم تراث خاصة، تجمعها بعضها مع بعض وتشكل منها "كلاً" تلك الضرورة التي تفرضها الظروف، أو قل الحاجة التي نشعر بأن هذا النوع من التراث يسدها. وبما أن الحاجات تتغير وتتبدل فإن من الطبيعي أن تطلب هذه "الحاجة" شيئاً معيناً من "التراث" وليس كل التراث القديم. وهكذا نكون أمام ما سميناه "التراث الحي" الذي يفعل فعله في حاضرنا.‏

والسؤال هو هل هذا التراث "الحي" يمثل التراث "القديم" كله تمثيل استغناء أم لا يمثله؟ أي هل ينحصر التراث بما نختاره، أو بما نحتاج إليه، أم أن التراث هو كل ذاك الذي يبتعد عنا زمنياً إلى الخلف؟ بمعنى آخر هل التراث انتقائي، نأخذ منه ما نريده، أم أنه كل ما نريد وما لا نريد؟ إنه سؤال هام، وعلى ضوئه يتم الاهتمام بالتراث، بعضه أم كله؟‏

وهنا تبرز مسألة "الكلاسية"، بأي شيء نربطها، بما احتجنا إليه، أم بكل ما هو قديم؟ وبما أن هذا المصطلح مرتبط بالفن والأدب، فإن من الممكن الادعاء بأن "الكلاسية" هي ذلك الجزء من التراث الذي يظل محتفظاً بتأثيره في كل المراحل. ولا نستطيع الركون ركوناً كلياً إلى مقولة إيليوت بأن الكلاسية تعني "النضج". إنه يرى أنه لا وجود للكلاسية إلا حينما تنضج المدنية، وحينما تنضج اللغة وكذلك الأدب. وهذه رؤية جريئة، تشتمل على شيء من التناقض فلا يمكن العثور على مدنية ناضجة، مادياً وأدبياً، إن التطور المتفاوت سنة عامة، فلا يمكن الزعم أن الأدب الناضج نتاج مدنية ناضجة، إلا إذا جعلنا المدنية الناضجة محصورة بالفترة الزمنية الأدبية الناضجة، أي نأخذ صفات المدنية في فترة الأدب الناضج، وندعي بأنها المدنية الناضجة. ولو كان الأمر على هذا الشكل لأنتجت لنا المدنية السكندنافية، وهي أرقى مدينة في هذا العصر، أدباً ناضجاً، بينما نجد أن الأدب السكندنافي لا يشكل حضوراً في التراث العالمي. ولو نظرنا إلى أميركا اللاتينية، لوجدنا نضجاً أدبياً، من غير أن نضطر إلى القول أنها ذات مدينة ناضجة. ثم ماذا نعني بالنضج؟ هل هو النضج الوجداني أم المادي، أم التطابق بين الطرفين؟ وهل التطابق بين الطرفين يؤدي إلى الإبداع، أم التباين؟ والمذهل أن العودة إلى التاريخ تأتيك بأمثلة تؤيد الوجهتين، فما من ناموس ظل ثابتاً ومستمراً، في ميدان الإبداع الأدبي الذي نحن بصدده. ولكن الأرجح أن يكون التباين أشد حفزاً للإبداع، في حين لا يصل الاستواء والاعتدال إلى ذرى إبداعية مرموقة وطيدة.‏

من أي معين ينبجس الإبداع؟‏

لنحدد الكلمات الثلاث السابقة، إن القديم هو الغابر زمنياً، سواء أكان حاضر الفعالية أم لم يكن. والتراث هو ذاك القديم الذي يمتلك حضوراً فعالاً في العصر.‏

والكلاسية هي ذاك القسم من التراث الذي استطاع أن ينخلع عن الزمن، فهو ذو حضور فعال دائم، غير مرتبط بمرحلة زمنية، إما لأنه يمثل النضج، كما يقول إيليوت، أو لأنه يمثل ذاك الجزء المشترك بين الناس، أو لأنه يعبر عن إطلاقية ميتافيزيكية، بحيث يدفع بالإنسان إلى الحيرة والعجب والدهشة، أو لأنه يعبر عن صميمية إنسانية ثابتة.‏

أما الكلاسية من حيث الأشكال والأطر التعبيرية فبحث آخر.‏

إن معين الإبداع ينبعث من كل قديم، بشكل عام. وحين تطفو "موضة" التراث، يصبح جزءاً من القديم هو الملهم أكثر من غيره. وفي الوقت نفسه يظل التيار الكلاسيكي مستمر الفعالية، على شكل وتائر متباينة لشدة، فحيناً تبرز الكلاسية بقوة، وحيناً يخف تأثيرها. والقاعدة العامة التي يمكن الركون إليها هي أن القديم بمجمله، ركيزة أساسية للانطلاقة الإبداعية. ولو نظرنا في أضخم عمل إبداعي، كالكوميديا الإلهية، وتفحصنا "القديم" الذي كان مبعث الإلهام والإبداع، لوجدنا أنها كلها اتكأت على القديم في منطلقاتها الإبداعية. إن القديم يتجلى في الأعمال الإبداعية حسب التظاهرات التالية:‏

1-الآثار والأماكن التاريخية:‏

يلجأ الشاعر إلى الاعتماد على أماكن تاريخية معينة، تكون ذات دلالة في نفس القارئ. ويتم اختيار الأماكن التاريخية وفق شيئين أساسيين: الأول الحالة الوجدية التي يكون فيها الشاعر أثناء صياغة مشروعه الإبداعي، فإذا سيطر عليه الشجن فإنه يختار الأماكن المشجنة. وإن وقع في حالة من الغبطة والحبور فإنه ينتقي أماكن الفرح والمسرة، والشيء الثاني هو الغرض الذي يرمي إليه في استدراج القارئ. فليس من الضروري أن يقتصر الشاعر على ذاته وأحاسيسها، أثناء صياغة مشروعه الإبداعي، فقد يهدف إلى قارئ ما. يبغي إيصال شيء ما إليه. وليس من الضروري أن يكون هذا الشيء لصيقاً بقلبه، ولكنه يعرف حين يضع في ذهنه قارئاً ما، فالأماكن التي تثير هذا القارئ، وقد استخدم شعرنا كثيراً من الأماكن التاريخية، كالقدس والجلجلة وكربلاء ومكة، وعين جالوت، وحطين، والجليل، ودمشق، وبغداد... الخ وذلك بحسب الحدس الذي يوجه الشاعر، أوبحسب الغاية التي يتوخاها، والتي يريد أن يستدرج قارئه إليها.‏

وقد يخيل للشاعر أنه يستدرج القارئ إلى الغاية التي يريد، فإذا به هو نفسه واقع في الانفصال التاريخي ويندمج شعورياً فيه، فتتشكل بؤرة إبداع حقيقية، تتحقق فيها حالة الوجد الشعري. وهكذا لا نستبعد أن يقع الشاعر في الأحبولة التي نصبها للقارئ، ولن تكون إلا لصالح الاثنين معاً.‏

ولكن ليس من الضروري أن تكون الأماكن والآثار ذات ملامح تاريخية محددة، كتدمر وبعلبك والقلاع والحصون، بل يكفي أن تندرج الدلالة في الزمن الماضي حتى يرتاح الشاعر إلى عمله. إن شعر خليل مطران في "نيرون" و "رعمسيس" يعتمد على "تاريخيات" واضحة الملامح، وكذلك واضحة الغايات. ولكن نظرة عجلى على شعرنا الحديث، ترينا كم أكثر الشعراء من ذكر المدافن والمقابر والبقايا، من غير تحديد واضح لهذه الأماكن، التي مهما قلنا فيها، لا ننكر أنها تنتمي إلى الماضي وترمز إليه، وتثير شجناً إنسانياً مصيرياً، مستحباً عند الطرفين: الشاعر وجمهوره، ويقوم الشاعر بهذه اللعبة، لاعتقاده أن الرمز السائب الذي تغلفه الضبابية، أوقع في النفس من الرمز المحدد، حين لا تكون ثمة مدعاة لتحديد تاريخي. وإن أي خطأ في الاستخدام التاريخي للآثار والأماكن، سينقلب على المشروع الإبداعي، بنتيجة سلبية. إن خطورة استخدام الأماكن والآثار التاريخية تفرض على الشاعر دقة متناهية، فلا يأتي باسم إلا في مكانه الدلالي، وإلا فسدت قيمته الفنية.‏

على أن بعض الشعراء، كثيراً ما يستنجدون بالآثار والأماكن التاريخية، لسد فجوة وجدانية يعجزون عن التعبير عنها بأساليبهم المتبعة، بالأشكال العادية. والأغلب أن مثل هذا الاستنجاد لا يجدي كثيراً، وعلى الأخص حين يكون نتيجة لشح القريحة واستغلاق الموهبة الشعرية، التي هي السند الأول والأخير، والتي تستغني عن كل شيء، في حال قيامها بعملها.‏

على أن الأمر لا يقتصر على الأماكن والآثار. أو بالأحرى إن مفهوم الأماكن والآثار يمتد ليشمل الشخصيات التاريخية، التي لها دلالة بارزة، سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية، أم فكرية، والحقيقة أنه لا فرق بين الأثر والشخصية، لأن الأخيرة باتت أثراً من جملة الآثار التاريخية طالما أنها تحمل الدلالة المطلوبة، والتي يتوخاها الشاعر منها، المهم في كل ذلك الوظيفة التي تقوم بها الآثار أو الأماكن أو الشخصيات. فما دامت الوظيفة قد تحققت، فقد تساوى الجميع فنياً. إن الوظيفة الفنية هي الأساس، وبناء عليها "تنجح" الشخصية في أداء دورها، مثلما تنجح الآثار والأماكن.‏

ولكن فشلاً ذريعاً يكمن في المشروع الإبداعي، حين لا يعرف الشاعر كيف يستفيد من كل ذلك. وقد يعمد الشاعر إلى إسناد دور إلى هذه الشخصية التاريخية أو تلك، مع أن مثل هذا الدور غير معروف عنها، والنجاح في مثل هذا الإسناد يحتاج إلى قدرة الإقناع في النص الشعري. فحين يتعثر ذلك نجد المشروع الشعري يصاب بالإحباط الشديد، بالإضافة إلى منطق افتعالي متهافت. وفي هذه الحالة لا تجدي اللعبة اللغوية كثيراً في وقف التهافت والحد منه.‏

لكن ثمة مسألة أخرى، وهي مسألة التكرار. فكثيراً ما يفقد الاسم إيحاءه نتيجة ذلك. وتنصرم مرحلة غير قصيرة حتى يستطيع الشعر الخلاص من ورطة الأسماء.‏

وفي هذه الحالة يبهت الإبداع الشعري، وتصبح بوارقه قليلة وغير كافية. وشعرنا الحديث مليء بمثل ذلك.‏

2-الأنتيكا التاريخية الوهمية:‏

لا يقتصر الشعر على الآثار والأماكن والأعلام التاريخية المعروفة والمشهورة، وذات الدلالات الواضحة المحددة. بل كثيراً ما نجد الشعراء يعمدون إلى ابتكار أنتيكا تاريخية موهومة، فيقدمون شخصية يزعمون أنها عاشت في عصر كذا، أو أنهم يلجؤون إلى اختلاق أماكن وآثار وهمية لإلقاء مهمة مقصودة عليها، وجعلها تقوم بوظيفة الأماكن والآثار والأعلام التاريخية.‏

ومثل هذه المحاولات الإبداعية تكثر في المراحل التي يسود فيها النزوع إلى الأعلام والأماكن والآثار التاريخية، بحيث يصبح تكرارها مملاً من جهة، وغير موح من جهة ثانية. والتمسك بما هو قديم يكمن خلف هذه المحاولة، لاعتقاد ضمني بتلك القدسية والعجائبية في القديم. وبهذه المحاولة تنطلق المحاولات الإبداعية الجديدة، تشق طريقها بسهولة، بعد الرتابة التي وقعت فيها المشاريع الإبداعية السابقة التي اعتمدت على التاريخ المعروف والمشهور. وليس من الضروري أن يتحدث الشاعر عن الشخص الثالث دائماً.‏

إنه قد يتحدث عن نفسه. فعندما نقرأ:‏

كنت حمالاً على باب زويله‏

حين مر الجند كالطاعون...‏

نعرف أن الأمر لا يعدو إيغالاً في أحقاب التاريخ لغاية مرصودة، ونلاحظ أن الأنتيكا التاريخية الوهمية، إنما تختار أعلامها من العامة، وما يطلق عليهم اليوم اسم "الكادحين".‏

ومثل هذا الاختيار يرمي إلى عدة مقاصد، لعل في مقدمتها إعادة النظر في التاريخ الرسمي الثقيل، فكثير من الشعراء يرفضون تاريخ السلالات الحاكمة، ويعتبرونه مزيفاً في معظمه، إن لم يكن كله. وفي اعتقادهم أن من الخطأ والزيف أن نعرف عصراً بمعرفتنا فرداً، لا يجرؤ مؤرخ في زمانه أن يتحدث بغير رغائبه وأمانيه. ومثل هذه المشاريع الإبداعية تحمل في طياتها نوعاً من "المفاجأة" في تفسير التاريخ والنظر إليه، ولا شك أن الأنتيكا التاريخية الوهمية خير مساعد لأداء هذه المهمة. ولكن الشخصية المختلقة ليس لها أي دور خارج نظرة الشاعر. إنه يريد أن يقدم نظرة جديدة في "كذا" من التاريخ فيلجأ إلى هذه اللعبة التي تلفت الأنظار إلى الوقت الذي يكثر فيه تكرارها، وتشيع النظرة الجديدة في التاريخ، فيعود الشعر إلى المراوحة والتكرار.‏

وقد يلجأ الشعراء إلى طريقة أخرى، وهي إعادة النظر في الدور الذي قامت به هذه الشخصية أو تلك، فيقدمون إليك "اعترافاً" بما كان هذا أو ذاك من المشهورين المعروفين يفكر فيه، أو أنهم يفسرون ما قام به تفسيراً جديداً، فيه الكثير من الطرافة.‏

ومثل هذه المحاولة تستتبع أماكن وآثاراً وهمية، من أجل استكمال اللوحة التي يريد الشاعر رسمها. كما أنها تستدعي اختلاق أفعال وأعمال لا أساس لها.‏

على أن القراء لا ينخدعون كثيراً بمثل هذه المحاولات، فمعظمها، إن لم نقل كلها، لا يقصد بها سوى إسقاط الماضي على الحاضر، لدحض حجة، أو تفنيد تهمة، أو توجيه إدانة، وقد لاحظت أن القارئ أميل إلى الأخذ بهذا الإسقاط، وإن لم يكن الشاعر قد تعمده أحياناً. وبعض المحاولات لا تخلو أبداً من الافتعال المتعمد الرامي إلى خدمة المشروع الشعري وإنجاحه.‏

وتكثر الكائنات الغريبة في مثل هذه المحاولات، لدفعنا إلى جو من الاكزوتية الخلابة التي تشحن مشاعرنا، وتهيئنا لقبول المشروع الشعري، والاقتناع به. وحتى لا يحاسب الشاعر فيما يقدمه، نجده يعمد إلى حذف الزمان نهائياً في بعض الأحيان، كما أن المكان ليس له ذاك الوجود الجغرافي الحقيقي. فعندما تصادفنا كلمة "باريس" أو "دمشق" أو "لندن"... الخ فإن الأمر لا يتعدى الاسم. ولا يأخذ الشاعر من دلالة الاسم سوى ما ينوي إبلاغه للقارئ، من غير أن يأبه "تاريخياً" لهذا المكان أو ذاك.‏

ومثل ذلك ما يصادفنا من البحار العجيبة والأنهار الغريبة، والغابات الوحشية والكهوف والغيران... إنها كلها من الماضي، من القديم، أي من قلب الاكزوتية الخلابة، التي تستثير الانفعالات. والمنزلق الذي قد يقع فيه بعض الشعراء هو الإكثار من ذكر تلك الأماكن من غير أن يتوخوا غرضاً فنياً يخدمون به شعرهم.‏

وهناك أسماء لامعة في التاريخ، قد يعتقد الشاعر أن مجرد ذكرها يقوم مقام المقدمة الطللية في القصيدة الجاهلية، فيرقق من جانب القارئ ويجعله مستعداً لقبول "الأطروحة" الشعرية الحديثة، والشاعر الحق يعرف تماماً متى يضع الأسماء في أماكنها المناسبة. وقد تكون لعبة الأسماء ذات مخاطر ومحذورات، أهمها ركام المادة التاريخية، من دون غاية فنية.‏

3-الفولكلور والأسطورة:‏

بعد انصرام كل هذه الأزمنة التي تقدر بآلاف الأعوام، يجد المرء نفسه، إما التفت إلى الوراء أمام كنز من الفولكلور والأساطير، كلها من نتاج المجتمعات البشرية الأولية، التي كثيراً ما يحلو لنا توجيه الاتهام إليها بالبدائية والتخلف والجهل.. وكثير من الأوصاف الأخرى التي من هذه الشاكلة. ولن نغامر في تحليل الفولكلور والأساطير.‏

إننا نقتصر هنا على التنبيه إلى ناحية في غاية الأهمية، وهي أن ما وصلنا من التراث الفولكلوري والأسطوري، لم يكن لهواً، ولا كان وليد خيال عابث. كان ضرورة من الضرورات البشرية. ولا نقصد ضرورة فرضها الخيال، بل ضرورة حتمها الواقع.‏

فالفولكلور والأسطورة واقع بشري، يعكس مواقف وتجارب بشرية، بطريقة خاصة. إن الآلهة التي كانت تملأ الأرض ليست أكثر من تفسير لواقع إنساني حقيقي. إن الأقدمين جعلوا –على سبيل المثال- للنوم إلهاً هوهيبنوس. ويطيب لبعضنا أن يهزأ بهذا الإله، أو غيره. ولكن لنمعن قليلاً في الأدبيات التي تدور حول هذا الإله، نجد أنها لا تخرج عن كونها تعبيراً عن ضرورات بشرية. ولنقارن بين هاتين الجملتين المفيدتين:‏

آ-لامست أنامل هيبنوس السحرية أجفان الحبيب فأخلد للنوم.‏

ب-أخذ الكرى بمعاقد الأجفان.‏

ما الفرق بينهما؟.. أظن أنه ليس ثمة من فرق، غير ذكر اسم الإله. ولكن حذف الاسم لا يعني أننا أمطنا اللثام عن الضرورة التي تجبر الأجفان أن تنام. إن كل فعل بشري، مهما كان مألوفاً، يجد تمثيلاً له في الأسطورة أو الفولكلور، إذا استحوذ على شيء من السرانية. وعصير النوم، لعب ويلعب دوراً كبيراً في الأدبيات القديمة والحديثة وأنا لا أجد فرقاً، في ميدان الأدب طبعاً، في أن يتم تركيبه على يد صيدلاني أو على يد هيبنوس. المهم إسناد دور معين للنوم، الذي هو ضرورة بشرية. ولا فرق بين أن يتم على طريقة أو أخرى، أو على يد هذا أو ذاك.‏

ولنأخذ أسطورة سيزيف. إنها تعكس حقيقة بشرية لا جدال فيها. إن الإنسان يأتي هذا المسرح ثم يغادره وهو صفر اليدين. فلنتفلسف ما طابت لنا الفلسفة، ولنلجأ إلى العلم أو غير العلم. إن النتيجة واحدة وصندوق باندورا الذي أطلق كل الآلام والآمال والأحزان التي أوبأت البشرية، تحول في عصرنا إلى علم البكتريولوجيا والباثولوجيا والطب بمختلف فروعه. ولم نفعل شيئاً سوى أننا قمنا بتحليل محتويات صندوق غادة الآلهة.‏

ونرسيس يمثل واقعة نفسية لا يمكن دحضها ونكرانها. وهكذا، ومن غير أن نستعرض الأساطير والفولكلور، نقر بأننا أمام واقعين: واقع المعاناة، وواقع التعبير الأدبي عن هذه المعاناة: أسطورة، حكاية شعبية، فابيولا، فولكلور، أغنية... وغير ذلك من الأشكال الأدبية الأخرى، التي لا مجال لسردها، طالما أنّ أياً منها يغني عن بقيتها.‏

وكل ما يمكن قوله إن واقعية زولا وغير زولا، لم تفعل شيئاً سوى مواجهة المعاناة مباشرة، من دون الاستعانة بوسيط، ثم القيام بتعليل هذه المعاناة بطرق نزعم أنها أشد إقناعاً من الطرق الأخرى التي جاءت بها الأسطورة أو الفولكلور. وكل الحماسة التي نبديها لواقعيتنا لا تجدي شيئاً ولا تقدم جديداً، طالما أن النتيجة التي ننتهي إليها واحدة، ولو استبدلنا "عنزة العنوزية، أم القرون المحنية" التي انتقمت لأولادها، ببقر بطن الوحش المفترس، بأم بشرية من لحم ودم، لما أضفنا شيئاً إلى الواقع البشري، كل ما في الأمر أننا حاولنا تنحية التعبير الأدبي عن هذا الواقع، بمواجهته مباشرة، لاستخفافنا بذاك التعبير، ولاعتقادنا أننا سنأتي بخير منه.‏

ولو نظرنا في الشريط الطويل المديد لمسيرة الأدب، لرأينا أن الشاعر قد يواجه الواقع مباشرة ويستلهمه، وقد يستلهم التعبير الأدبي عنه. وهذه قاعدة تسود جميع المراحل الأدبية تقريباً. ولكن قد تمر مرحلة تطغى فيها مواجهة الواقع على استلهامه، وقد تمر مرحلة أخرى يطغى فيها استلهام التعبير الأدبي عن هذا الواقع. فلا نكران –إذاً- أن التراث الأسطوري والفولكلوري، معين ثر جداً لاستلهامات الشعراء، وفي اعتقادنا أنه لا فرق بين الاثنين، إن لم نقل إن الأخير أثبت قدرة كبيرة على العطاء الملهم، وعلى أي حال فإننا نعتقد أن الأساطير والفولكلور تساوي الواقع البشري، من حيث التعبير عن التجربة الإنسانية. فلا يمكن والحالة هذه، أن نستهين بالوجه الآخر للواقع، وأن ننكر عليه قدرته على الإلهام والإيحاء, بل على العكس من ذلك، إذ نلاحظ شغفاً خاصاً بهذا التراث، أكثر مما نلاحظ استلهاماً للواقع. ومع أن مثل هذا التراث يساوي الواقع، إلا أنه يمتاز عنه بنقطتين هامتين: الأولى أنه تكثيف للواقع، أي نبذ لكل الركام الوقعي الذي لا ضرورة له، والثانية أنه يشتمل على جمالية معينة: قد تكون نابعة من الكثافة بالذات، أو من شكل الأداء التعبيري، أو من الرموز المستخدمة أو ما شابه ذلك.‏

فالأدب أجمل من الواقع. ولسنا في مجال عرض الأسباب الموجبة لهذه الجمالية.‏

كيف يتم استلهام التراث الأسطوري والفولكلوري؟ قد تتعدد الطرق، إذ قد تكون الرموز أو غيرها من العناصر التي يشتمل عليها هذا التراث. ولكن ثمة طريقتين بارزتين في هذا المجال، ترجحان على غيرهما.‏

الأولى: عندما يجد الشاعر في التراث صيغة تعبر عن تجربته وأحاسيسه تعبيراً بعيداً.‏

وفي هذه الحالة لا يعود إلى الواقع لاستلهامه والانطلاق منه، بل ينطلق من هذا التراث، ويستسلم لإلهاماته، من غير أن يكون ذلك نسخاً للتراث أو تقليداً له. إنه استلهام كاستلهام الواقع سواء بسواء، فالتراث في هذه الحالة نقطة انطلاق وغاية نزوع.‏

الثانية: عندما لا يستطيع الشاعر التعامل مع الدلالات الواقعية المباشرة، وهذه الطريقة نابعة من الخوف الرقابي، فيعتقد الشاعر أنه بلجوئه إلى التراث الفولكلوري.‏

أو الأسطوري، يصل إلى مبتغاه من غير حرج ولا خوف. ولكن مثل هذا اللجوء محفوف بالمزالق، كالافتعال الفني، أو القصور التعبيري، أو المواربة التي تصل إلى حد الغموض، أو اختيار دلالات من التراث بعيدة عن التلميح إلى الواقع الذي يريد الشاعر أن يتصدى له.‏

أما النزوع الفني نحو التراث الأسطوري والفولكلوري، فهو عام، على ما يبدو.‏

إلا أن نسبة بروز الفنية التراثية في أساليبنا الحديثة تختلف من شاعر إلى شاعر، ولا أظن أن أحداً يمكن أن يزعم أن الناحية الفنية تنجم عن العمل الشعري ذاته، وأن الشاعر لا ينتبه إلى توفير جمالية فنية لشعره، أثناء اندماجه بعمله. إن الشاعر لا ينسى لحظة واحدة أنه يجب السعي، بشتى الوسائل لتوفير جمالية خاصة. وهذا ما سنعود إليه بعد قليل.‏

إن التراث الأسطوري والفولكلوري ليس مستودعاً لحفظ تاريخ مجتمع ضارب في القدم فحسب، وإنما هو طريقة في التفكير والمعالجة الفنية. وحين يستلهم الشاعر هذا التراث، فإنه لا "ينقله" نقلاً، بل يندفع في التعامل مع الكون والحياة، وفق التنميط الأسطوري الفولكلوري. ومع ذلك فإن نقل الأساطير ليس مرفوضاً إذا توافرت له جمالية معينة.‏

4-التراث الديني:‏

يمتلك الإرث الديني سرانية أكزوتية، ولذلك يلعب دوراً على درجة كبيرة من الأهمية في الإلهام الشعري. ومهما كانت سريعة النظرة التي نلقيها على أي شعر في العالم، فإنها تطلعنا على أن التراث الديني لا بد من أن يطل بطريقة أو بأخرى، بصراحة أو باستتار، برموز أو بدلالات أخرى... ولا يقتصر التراث الديني في مكنوزه على دين واحد، بل إنك واجد تراثاً "عالمياً" للدين. فالبوذية والكونفوشية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام، بعد كل هذه الأحقاب التي مرت عليها، تشكل تراثاً يتصل ويختلط في بعض أقسامه، وينفصل ويتمايز في أقسامه الأخرى. وبما أن التراث الديني يشتمل، في نهاية الأمر، على تجارب وخبرات إنسانية، فإنه يصبح مبعثاً لاستلهامات، وإطاراً فيه جاهزية التعبير الأدبي والفني. وباستثناء خصوصيات دينية لدى بعض الشعراء، فإن التراث الديني ملك مشاع. وإن آدم وقابيل وهابيل وحواء ويوسف وإبراهيم، ومحمد والمسيح، وبوذا، وزارا، ونوح وكل ما يتعلق بهم، من تفاحة آدم وحمامة نوح الحاملة غصن الزيتون، حتى المعراج والإسراء، إنما تشكل مرتكزات انطلاقية لكثير من الأعمال الشعرية. ولا ننسى ما فعله أدونيس، في أواخر أعماله الشعرية، من استلهامات دينية في قصيدته "إسماعيل"، فلم يروِ قصة، ولم يدع إلى مدعى، بل حقق مشروعاً شعرياً، على درجة كبيرة من الفنية.‏

إن التراث الديني يلعب دوره الهام والكبير في العديد من الميادين، لذلك لا يقتصر الاستلهام الشعري على ناحية واحدة، فأي ظاهرة دينية، لها أكثر من دلالة، فقد تكون نفسية واجتماعية وفنية ودينية معاً، وقد تقل عن ذلك حتى تكتفي بواحدة. فالمعراج، على سبيل المثال، يتخطى التخم الديني، إلى التعبير عن النزوع نفسي لدى الإنسان، إلى اختراق عالم الغيب، إنه التوق إلى المعرفة مهما كانت قداستها. وطريق الجلجلة ليس فقط واقعة دينية تاريخية، بل له مرموز إنساني عميق. وكربلاء ليست فقط حادثة تاريخية، وليست فقط حرباً دينية، فقد انخلعت عن محدوديتها، لتغدو رمزاً إنسانياً شمولياً... وهكذا بحيث يمكن أن ندرج الكثير من الأحداث والأعلام والخوارق والعجائب، تحت رموز ومدلولات إنسانية عامة وشاملة.‏

وعندما نقول التراث الديني، فإننا لا نقصد الثقافة الدينية. إ ن الثقافة، بشكل عام، لا تصلح للاستلهامات. إنها تدعم المشروع الشعري كثيراً، ولكنها لاتساعها، ولاحتوائها على كل شيء تقريباً، فإنها لا تلعب ما يلعبه التراث الديني، الذي ارتفع إلى مستوى الشمولية، وبات جزءاً من التراث الإنساني. فالثقافة معرفة، والتراث الديني حاث كبير من الحواث الأخرى.‏

وعلى هذا، لا نكون أمام شعر "ديني" كالذي شاهدناه في بدايات أي دين من الأديان، وإنما أمام شعر إنساني فني عظيم، مع أننا لا ننكر خطورة التعامل مع التراث الديني، في الأجواء الشرقية المشحونة برواسب وحساسيات خطيرة. والأفضل أن يكون الاستلهام من تلك الأجزاء من التراث التي تشكل موقفاً شمولياً.‏

يختلف الشعراء في استلهام التراث الديني. ولا أدري إن كان بعضهم تنتابه عاطفة دينية خاصة، غير العاطفة الفنية، أو الإنسانية الشاملة. والشعراء الذين نقصدهم، هم أولئك الشعراء الذين لم ينذروا أنفسهم لحماية مقدسات الدين وألوهياته، أولئك الذين تستولي عليهم العاطفة الفنية قبل أي عاطفة غيرها. إن حب الجمال، في الفن الشعري، لا يعرف عندهم ديناً من دون دين، ولا يحابي طرفاً من دون طرف آخر. إن الشغف الجمالي يغدو لهم هداية، وليس مطية للدعاية. أما من دخلوا مشروعهم الشعري بيقينات دينية، فلهم منحى آخر، يختلف عما قلناه كل الاختلاف، وإن كان بعضهم يلجأ إلى نوع من المخاتلة والمواربة والتحايل والزخرفة والتمويه، للتمظهر بمظهر الشاعر "الإنساني" الذي جعل همه إنقاذ البشرية جمعاء. وقد عرفت عصور المسيحية نوعاً من هؤلاء، مثلما عرفت نوعاً من الشعراء الدينيين المتعصبين، الذين جاهروا بتكفير كل من ليس على دينهم، أو ملتهم. وعلى أي حال، فإن التراث الديني لن يعطيك أكثر مما يأخذ منك، إلا إذا كان الشغف الجمالي مشعالك في السراديب المظلمة.‏

وقد جرت العادة، في العصور التي سادتها النزعة الدينية، أن يجردوا الشاعر من شاعريته لمجرد مروقه من الدين، أو افتئاته عليه، أو كفره به، ولا ينصف هذا الشاعر إلا فيما بعد. وبالعكس تماماً أيضاً، فبعض الناس يعتبر التصدي للمعتقدات الدينية فتحاً جمالياً فنياً، واستلهام تلك المعتقدات بعداً عن الجمالية الفنية، ويدخلون مصطلحات من غير ميدان الشعر، ليحكموا بها على فنية لا علاقة لها بها. ومن العجب أن تكون القصيدة الواحدة نهباً لحكمين متناقضين كل التناقض. ولكن أيضاً يبدو أن الإنسان ما يزال مرتهناً بكثير من التراثيات السابقة من ميادين غير الميدان الذي يجول فيه.‏

كثيرة هي أشكال الاستلهامات الدينية، حتى أن بعضهم لا يقف عند حدود الدين ومراميزه العريضة بل يتمسك بطائفته ومذهبه، مثل إيليوت، حيث يستلهم أدق منظورات الكثليك، منطلقاً منها في ريادة فنية أخاذة. ونعتقد أن مثل هذه الاستلهامات ليست مصادفة، ولا عبثاً. إن الشاعر في هذه الحالة، يرى موقفه منسجماً مع الموقف الذي يستلهمه، ويتم التماهي بين الموقفين، في عمق ذاتي بعيد الأغوار في نفس الشاعر. ومثل هذا لن يؤدي إلا إلى موقف شعري، فالشعر، إن كان شعراً حقاً، يمتلك أنامل سحرية، يحول كل شيء، مهما كان تافهاً، إلى مصلحته، فكم بالحري تلك التجارب الإنسانية الدينية العريقة.‏

5-التراث الشعري اللغوي:‏

وهو في جذوره التراث الأدبي الحقيقي، إنه التراث الذي قام بالدور الأول في خلق الشاعر. إن الشاعر يفتح عينيه على هذا التراث، لا ليوغل فيه، بل ليتعلم كيف به يوغل في شعر خاص. وضمن هذا الاستيعاب التراثي، يبدأ الشاعر في بناء شخصيته، وبزعمه أنه ذو كيان شعري مستقل. وقد أجريت "دردشة" عابرة، مع أربعة براعم، ادعوا جميعهم ولا استثناء، أن شعرهم يتمتع بشخصية مستقلة، ولا علاقة له بالتراث السابق. اطلعت على بعض أشعارهم، فألفيت معظمها مرتبطاً بالتراث الشعري الحديث، في حين أن القليل منها يستلهم، أو بالأحرى يقلد التراث القديم. وينشأ وهم الاستقلالية من كون الشاعر ناظماً للشعر. فطالما أنه ينظمه فهو ملكه، له استقلاليته الخاصة. ولا يستفيق الشاعر من غفوة هذا الوهم إلا بعد انصرام فترة غير قصيرة. إن أي شاعر، كائناً من كان، ينشأ ويتجول ضمن "قفص" التراث الشعري اللغوي.‏

ومثل هذا التجوال يوهمه بحريته. إنه يتحول من تراث شاعر إلى آخر، وإن كان معظم المبتدئين يميلون إلى تفضيل شاعر بعينه. وقد لاحظت أن القليل جداً من يعترف بحقيقة ميله إلى هذا الشاعر أو ذاك. ويبدو أن شيوع كلمة "الحداثة" في هذه الأيام، جعلت معظم المتجولين في الأقفاص، يدعون طلائعيتهم في الحداثة.‏

ولكن في هذا العصر، يبدو عسيراً تحديد التراث الشعري اللغوي، فلم يعد الشعر الوطني (وأقصد بالوطني هنا شعر اللغة الأم) ذاك التراث المصفى، فاتساع وسائل الاتصال، وظهور وسائل الإعلام الضخمة، وحمَّى الترجمة من هذه اللغة إلى تلك، والعكس، قد وسع من مفهوم التراث الشعري اللغوي. إن المؤثرات "العالمية" (ونقصد بالعالمية هنا شعر اللغات غير الأم) باتت تستهوي الأفئدة، إذ يجد فيها المبتدئ روحاً جديدة غير مألوفة، مثلما يجد فيها فرصة للادعاء أنه طاهر الذيل من التراث الذي ينتمي إليه. وقد كان للشعر الإنكليزي تأثير قوي في كل آداب العالم، وها هو الشعر الإسباني الآن يثبت فاعليته في هذا المجال. ولكن لا ننكر أن لبعض الأقطار أعلاماً كباراً كان لهم تأثير واسع الطيف، كبعض شعراء فرنسا، وبعض شعراء الروس.‏

والذي نعتقده، أن مثل هذه التأثيرات في طريقها إلى الاتساع والعمق، نظراً لازدياد الإقبال على اللغات الأجنبية، ولازدياد الأدب المترجم. ولا شك أن الإطلاع على الشعر من مصادره أفضل من الإطلاع على المترجمات.‏

يتم استيحاء التراث الشعري اللغوي، عن طريق استعارة موقف شعري لغوي، له نفاذه في عمق نفسية الشاعر، ويتمتع بجمالية أخاذة. وبالتدريج تتم عملية نقل الملكية.‏

ومثل هذه العملية تسير، في الأغلب على النحو التالي: يمسك الشاعر بالموقف، ثم يكثفه إلى أدق درجات التكثيف وحين يصل إلى أصغر ذرة من الكثافة، يعود القهقرى، ولكن بطريقة أخرى، حيث يبني على هذه الذرة موقفاً خاصاً به، يحمل الكثير من معالم فنه وشخصه، وإن تفاوتت الدرجات بين شاعر وآخر، فبعضهم يتماهى في الموقف على حساب ذاتيته، وبعضهم يتماهى في الموقف ليجر هذا الموقف نحو ذاتيته، فتطغى الشخصية عندئذ طغياناً شديداً، من غير أن يكون ذلك بالضرورة على حساب فنية المشروع الشعري.‏

ويتم الاعتراف بنقل الملكية هذه، حين يثبت الناقل قدرته على تقديم ذاك الجزيء، بطريقة مختلفة عن الهيكلية العامة التي كان يشغل دوراً ما فيها. وكثيراً ما نسمع الآن زيداً من الناس، ليس بشاعر، لأنه استلهم هذه الناحية أو تلك من الأدب الغربي، أو غير الغربي، ويعتبرون ما جاء به مفتعلاً، مع أن الحقيقة أن الشاعر حين يتوحد بناحية من النواحي، إنما يفعل ذلك لأنه وجد فيما يهفو إليه شيئاً من نفسه. ولذلك يقوم بنقل الملكية.‏

يضاف إلى ذلك أن الأدب لا يأتي هكذا، مجرداً، مطلقاً، إنه يدخل أبوابنا بثوب لغوي واضح، لهذا الثوب اللغوي إيقاع خاص، يترك راسباً كبيراً في النفس، ومقياساً خاصاً بإيقاعه في الأذن. وخير دليل على ذلك، أننا في بعض الأحيان، نحظى بفكرة، نظنها طريفة نادرة، ونسرع إلى التعبير عنها، فنلاحظ أن قسماً كبيراً من التعبير اللغوي، قد تسرب إلى لغتنا من لغة غيرنا، شرقية أو غربية لا فرق، فنروح نعبر عن فكرتنا بثوب من غيرنا. فعلى أي شيء يدل هذا؟ إنه يدل:‏

آ-على أن الفكرة مستلهمة من الإيقاع اللغوي المختبئ في لا وعينا. فكثير من الأفكار تخطر على البال، بشكل فجائي، فلا نعرف في بادئ الأمر من أين انبثقت، ولا كيف تفجرت. وحين نباشر عملية التعبير اللغوي، نلاحظ أننا نلبس الفكرة ثوباً مستعاراً.‏

وما نظن أن أحداً قادر على ضبط الحدود بين الوعي واللا وعي، في هذا المجال.‏

ب-على أن الفكرة لصيقة بإيقاع لغوي معين. إنها لا تنطبق عليه كل الانطباق، ولكنها تتداخل معه إلى هذه الدرجة أو تلك، وحين نباشر التعبير عنها نجد أنفسنا أمام ثوب لغوي محيِّر، فلا هو مطابق للفكرة، ولا هو يجنف عنها ذلك الجنف الذي يجعلنا نهمله وننحيه. ونقع في ارتباك ملحوظ. فالفكرة بعد تجسدها، ليست هي ذاتها الفكرة التي كانت تجول في أعماقنا. إن هناك شيئاً ما ينقصها. وأمام هذه المعادلة العسيرة، إما أن نقوم بتعديل الفكرة، أو نقوم بتعديل الثوب اللغوي، بطريقة أو بأخرى. ولكن بالنتيجة نظل غير قانعين بأن ما جرى التعبير عنه، هو ذاته ما كنا نود التعبير عنه. وأظن أن قولتهم الشهيرة "المعنى في قلب الشاعر" تشتمل من بين ما تشتمل على هذه الناحية التي شرحناها، وكثيراً ما نسمع صيحات بعض الأدباء "أنا لم أقصد ذلك بل قصدت...". وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن الخلل الناجم بين الفكرة والثوب اللغوي، يلعب دوراً كبيراً في هذه الناحية، إذ مهما كان الشاعر يلعب لعبته الفنية، فإنه لا يريد، ضمناً على الأقل، ألا يكون مفهوماً من قبل قرائه. إن الشاعر يحب الرموز، ولكنه يكره الألغاز. ولا نظن أن شاعراً يرضى أن يغيب عن ذهن الناس بسبب غموضه والغازيته.‏

جـ-على أن الفكرة مصوغة من عدة إيقاعات لغوية، فقد تتضافر إيقاعات لغوية في إبراز فكرة أو موقف أو صورة. وليس من الضروري أن تكون هذه الإيقاعات متساوقة، فقد تكون ضدية، أو متباينة. وهنا تأتي مسألة التعبير، لنجد أنفسنا أمام توليفة لغوية تتسم بالجدة، إذا استطاعت أن تنقل ما في نفوسنا تماماً.‏

***‏

أتينا على أهم تجليات التراث، وليس عليها جميعاً. ومن هذه التجليات نجد أننا محاطون بالتراث، من جميع الجهات تقريباً. ويكفي أن ندقق فيما يسمونه "اللغة الأم"، اللغة الوطنية الشعبية (Vernacular) حتى ندرك أي خضم تراثي نحن فيه. وحين نتكلم عن الحداثة، لا بد أن نضع في حسباننا هذه المسألة جيداً. فالحداثة، مهما ادعينا من أمرها، تظل ضمن نطاق معين. إنها لا تستطيع التخلص من الكثير من التجليات التراثية. إن كل ما يمكن ادعاؤه، أن الحداثة تشغل حيزاً ما، في رقعة الشعر. أما الحيز الأكبر فهو للتراث.‏

ولا شك أننا نقع في وهم الحداثة، إذا اعتقدنا أن الوقوف في الضفة الأخرى يعني ما يعنيه من مفهوم الحداثة. فمناهضة التراث أو الوقوف موقفاً ضدياً منه، أو إعادة تفسيره، أو التركيز على الجوانب القلقة والغامضة... لا تقدم للحداثة إلا مجالاً ضيقاً. إن المواقف السابقة من التراث تظل في فلك التراث واستلهامه، ونصيبها في ذلك يفوق نصيب الحداثة. وكثيراً ما نسمع بادعاء الحداثة لدى من ظهرت لديهم هجومات حادة نزقة ضد التراث. إن المرء، في مثل هذه الحالة، يضطر إلى التوقف طويلاً لفرز الخط الذي أصابته الحداثة في هذا المجال.‏

وبناء على ذلك، فإن "القديم"، وليس التراث وحده، ولا "الكلاسية" وحدها، يلعب دوراً كبيراً جداً في مسألة الإبداع الأدبي. إن الالتفات إلى القديم، من آثار وأماكن وشخصيات وأحداث تاريخية أو موهومة، وغير ذلك من الأمور التي أتينا على ذكرها، والتي لم نأت على ذكرها، ليس سمة للمذهب الكلاسيكي الذي ساد أوروبا فقط، بل إنه سمة لمعظم المذاهب الأدبية، من رومانسية ورمزية وسيريالية. وحتى الواقعيون يجدون أنفسهم، في شعرهم ورواياتهم، عن قصد أم غير قصد، في أماكن عتيقة، أو يذكرون شخصيات عريقة، أو يستعيدون حادثة من الأزمان السحيقة.‏

ولا يقتصر التعلق بالقديم على الأدب والأدباء والشعر والشعراء، بل إن على ما يبدو نزعة نفسية واجتماعية ففي منطقتنا شيدت كنيسة على الطراز الحديث، جميلة الشكل، واسعة البهو، عالية السقف، بديعة التكوين، مذبحها عال وصورها مرسومة بدقة فائقة، وهي صورة جديدة كل الجدة. أما الكنيسة القديمة، فسطحها ترابي، وسقفها منخفض، وجدرانها غير مستقيمة تماماً. في زواياها الكثير من الحفر، والسنونو استعمر أخشاب سقفها، وسعت في شقوق الجدران فراخ الأفاعي، أما أماتها فتنشط في سياج الساحة الكبيرة. وقد وقعت عدة حوادث أليمة من لذع أفعى أو سقوط حجر، أو تعثر كهل. ولكن لم يمت أحد من المصابين بتلك الأحداث. وهذا ما جعل للكنيسة القديمة صفة عجائبية. وبعد اكتمال الكنيسة الجديدة، دشنت باحتفال كبير. ولكن بعد ذلك الاحتفال اضطر الخوري إلى مجاراة أهل المنطقة وإقامة القداس في الكنيسة العتيقة، لأن معظمهم رفض الذهاب أيام الآحاد إلى الكنيسة الجديدة وهجر القديمة. وحتى اليوم، وبعد ربع قرن تقريباً، ما يزال الناس على عادتهم، لا يتبركون إلا من الكنيسة القديمة، وإن كانوا الآن يقيمون الاحتفالات والطقوس في الكنيسة الجديدة. وقد خفت نوعاً ما عجائبية الكنيسة القديمة.‏

وقد لاحظت أن السكان لا يغرمون بالقديم الديني، بل بكل قديم، والأماكن المحببة لديهم هي تلك الغيران والكهوف العتيقة، التي يضفي عليها عتقها مهابة وروعة خاصة.‏

ويتحدثون بقصص عن لجوء الناس والوحوش إلى هذه الأمكنة. وكانت الوحوش إذا أوت وجدت إنساناً قد سبقها، آنسته وأنست به. وسمعت بعض الأقاصيص التي تدور حول بائع زيت داهمته عاصفة ثلجية، فمات جحشه، فحمل زيته وأوى إلى المغارة. وبعد قليل داهمه ذئب، ولا مفر أمامه، فاستسلم للذئب، واعتقد أن ذئباً جائعاً، في ليلة عاصفة، لن يوفر فريسة سائغة. لكن الذئب، الذي خاف هو الآخر من بائع الزيت أو الأمر، فلما رآه مستسلماً أنس به، مما جعل بائع الزيت يبحث له عن طعام، فشاركه طعامه.‏

ويمكن أن نوسع حكمنا ليشمل كل الأماكن المظلمة والمقابر، والوديان، والغابات الكثيفة والأدغال. في حين أن الأماكن المنكشفة والواضحة، والبيوت الحديثة لا تعني شيئاً أبداً. وقد حاولت جمع بعض الحكايات عن جبَّانة (مقبرة) القرية، فسجلت أكثر من خمسين حكاية، بينما حديقة قريبة من الجبانة، ولكنها بسيطة ومنسقة، والشمس لا تتركها من الصباح إلى المساء، لم يذكر أحد أي حكاية عنها.‏

إذا لم يكن ثمة ما ينقض كلامنا، أمكننا القول إن القديم يقوم بعملية الهام، لا لتاريخيته وإنما لغموضه وعدم انكشافه تماماً للناس، أي لامتلاكه سرانية منغلقة... لماذا؟.. لماذا الليل يخيفنا والنهار يؤنسنا، مع أننا نكون في مكان واحد ليس فيه أي جديد؟ لماذا الأدغال والكهوف ومنعرجات الجبال والوديان السحيقة، تدخل الروعة في نفوسنا، في حين لا نشعر بشيء من هذا في السهل والمنبسط والحديقة والحقل؟ لماذا ساحة الكنيسة تخيفنا، وساحة القرية تؤنسنا؟ لماذا كل هذه الخشية مع أننا ذوو عقول "علمية"، والسيطرة البشرية على الحيوانات الضارية باتت من الشدة بحيث لم يعد في المنطقة أي حيوان ضار؟‏

مثل هذا الالتفات إلى "القديم" و "الغامض"، وكل قديم غامض بحد ذاته، جعل القديم مركز إشعاع إبداعي لا يجارى. ورغم كل ادعاءاتنا المنتفخة بالحداثة، يظل القديم ركناً أساسياً. ولكن أي قديم هذا؟ هل ما يبعد عنا مئات السنين، أم آلافها؟‏

إن بعض المبتكرات والمخترعات الحديثة، يزيد عمرها على مئتي عام، كالقاطرة مثلاً، ومع ذلك فإن قدمها الزمني هذا لم يرفعها إلى درجة كهف أحدثه انهيار قبل عامين فقط.. ترى لماذا؟‏

ربما سولت لنا أنفسنا تعليل ذلك بالقول إن القاطرة واضحة، والكهف غامض مظلم، أو أن القاطرة من صنعنا، والكهف من صنع الطبيعة. إلا أن مثل هذا التعليل يتهافت حين نجد السيف، وهو من صنع اليد البشرية أيضاً، مستلهماً في الشعر، على حين لم يذكر أحد الصاروخ، الذي فيه من العجائبية أضعاف ما في السيف والكهف. فلا نظن أن الأمر مرتبط بصنعنا أو صنع الطبيعة.‏

ليس هذا التعليل مقبولاً، ويمكن أن نعدد تعاليل أخرى أيضاً غير مقبولة. فما السر الكامن وراء "إبداعية" القديم، وخبو أي إبداعية في الأشياء الحديثة، على الرغم من أن بعضها يضاهي القديم في السرانية والغموض، والعجائبية، لدى الشعراء على الأقل، لضآلة إطلاعاتهم العلمية؟‏

لنرجع قليلاً إلى الوراء، وهذا "القليل" يقارب المرحلة الأولى لظهور الإنسان، أي حوالي نصف مليون سنة فقط، يومها لم يكن يقطن الجزر البريطانية أكثر من مئتي نسمة.‏

في ذلك الزمن كان الاتجاه قد حسم. إن ما في الخارج ترك ميسمه في التركيب البنيوي للإنسان. المعلومات الأساسية في الخارج انطبعت في شيفرة الخلية، وتحدد طريق كل نوع من الأنواع الحية. إن الماعز أو الضأن الذي عمره شهر فقط يهرب من وجه الذئب، بينما لا يهرب من الكلب (إذا افترضنا أن الكلاب كانت مدجنة في تلك الأيام).‏

وباكتمال البنيان الجسدي للإنسان، وهو بنيان لا يختلف كثيراً أبداً عن بنيان الإنسان الحالي، كانت البيئة قد دخلت الجسد البشري، أو بالأحرى حتى لا نسيء التعبير نقول كانت البيئة قد فرغت من تكوين الجسد البشري، الذي احتفظ بكل الانطباعات عن البيئة. فمثلاً الخوف من الظلام كان ضرورياً للإنسان، فانطبع فيه هذا الخوف. واليوم نعيش في المدن آمنين مطمئنين. ولكن هب أنك في شارع تعرف معالمه كما تعرف قوافي القصيدة، وانقطع التيار الكهربائي فجأة، ولم يبق متصلاً بك سوى الأصوات المختلفة المترددة. إنك تشعر فجأة بنوع من الخوف والخشية على الرغم من يقينك المؤكد من الشارع. من أين جاءك هذا الخوف؟‏

ودرجة الخوف هذه تتضاعف كثيراً في بقية الأماكن كالأقبية والمقابر والكهوف والغابات، مهما كانت وسائل الأمان متوفرة.‏

وورثنا الكثير من هؤلاء الأسلاف، ورثنا الخوف من المرتفعات (أكروفوبيا) والخوف من الأعماق (الباثوفوبيا) والخوف من الأماكن المفتوحة (الأغورافوبيا) والخوف من الأماكن المغلقة (الكوسترافوبيا) بيد أن هذه التركة لم تقسم بين الورثة قسمة متساوية، وهذا يرجع إلى قوانين الوراثة، تلك القوانين الشائكة التي يحكمها ضدان متنابذان:‏

الضرورة والمصادفة. فليس من الضروري اليوم أن يصاب فرد بالاكروفوبيا أو الباثوفوبيا أو الأغورافوبيا أو الكلوسترافوبيا أو أي خوف آخر، بالنسبة ذاتها التي يصاب بها فرد آخر، فالنسب مختلفة ومتباينة. والملاحظ أن ثمة نوعاً من التوازن، فمن لا يخاف من المرتفعات يخاف من الأعماق والعكس بالعكس، وذلك بحسب نسب المورثات التي يمتلكها، والتي كانت من نصيبه.‏

ومثلما ورثنا مثل هذه المخاوف بنسب متفاوتة بين فرد وآخر، ورثنا أيضاً التعلق بالقديم وتقديسه، وإن لم يكن التعلق لتقديسه فلاحترامه أو الحنين إليه أو الإعجاب به، أو ما شئت من تصنيفات هذه الأنواع من التعلق. هذه الالتفاتة إلى الوراء ليست كالتفاتة أورفيوس. إنها التفاتة ضرورية لاستمرارية الحياة وكينونة الإنسان. وحتى نتأكد من ذلك نلجأ إلى الافتراضات. لنفرض أن كائناً ما لم يرث هذا التعلق بالماضي.‏

ماذا يترتب على ذلك؟ إنه عندئذ لا يعرف سوى نفسه، ويغدو منبتاً عن كل ما يقف وراءه. إنه لن يتعلق بأمه وأبيه ولا بجده وذويه، ولا يشعر تجاههم بأي عاطفة. ولو عممنا ذلك على أفراد النوع، لحكمنا على هذا النوع بالانقراض، لأن فقدان هذا التعلق يعني تماماً دخول أفراد النوع بعضهم مع بعض في صراع مميت، لن يبقي على أي فرد. وسوف ألفت نظر القارئ إلى أن بعض الأنواع قد انقرضت بسبب فقدان مورثة التعلق بالماضي، مثل الديناصور والماموت. ويمكن أن نجد حتى اليوم، بعض الظواهر التي تدل على فقدان هذه المورثة. لنلاحظ القطط. نجد بعضها رؤوماً على أبنائه، ولكن أحياناً نلاحظ هرة تلتهم أبناءها بمجرد أن ترى النور. إن الهرة التي تلتهم أبناءها فور ولادتهم هي الهرة التي فقدت مورثة التعلق بالماضي. ومن جهة أخرى نلاحظ لدى بعض أنواع الكائنات بروز هذه المورثة إلى درجة كبيرة، فالنحلة تعرف زميلتها التي تعيش معها في خلية واحدة. والنملة تعرف صديقتها في الوكر الواحد. وكل مجموعة تدافع عن أفرادها ضد المجموعات الأخرى دفاعاً مميتاً. فإذا افترضنا أن مثل هذه المورثة قد تلاشت من النحل أو النمل، فإن مثل هذه الأنواع سوف تتلاشى بعد جيل واحد فقط. إن أي انبتات في الماضي يعني فقدان كل المعلومات والمعارف السابقة التي يورثها الجيل السابق للجيل اللاحق. والويل للنوع الذي لا يتم فيه مثل هذا التوريث.‏

إنه يحكم على نفسه بالدمار. إن فقدان هذه المورثة يعني فقدان كل ما يصلنا بالماضي، إذ يموت كل ماض ولا يعود يحرك فينا أي شغف أو تعلق أو حنين أو شفقة أو إعجاب... إن الماضي لا يعود يعني لدينا أي شيء.‏

يلاحظ القارئ أننا في أدبياتنا نربط ربطاً محكماً بين الهجرة والحنين. ولعل أولى سمات أدبنا المهاجر ذاك الحنين الفياض الذي يتصدر كل الإنتاج الأدبي المهاجر تقريباً.‏

وإذا كان هذا الحنين قد ظهر لدى العرب المهاجرين، بمثل هذه الشدة والفوران، فإنه لم يظهر لدى غيرهم من مهاجري الشعوب الأخرى. فالمهاجرون في الأمريكيتين ليسوا عرباً فقط. إنهم من جميع الأجناس. ومع ذلك لم نسمع نغمة الحنين تصدح في إنتاجهم الأدبي. ويبدو أن العرب ما زالوا يحتفظون بمورثة التعلق بالماضي أكثر من غيرهم، فهم لم يندمجوا في المجتمعات الجديدة، بالسرعة التي اندمج فيها غيرهم، ولا شك أن للأجيال اللاحقة في المهجر قصة غير هذه القصة. ولكن غير العرب سرعان ما اندمجوا في المجتمعات الجديدة ولم يعد وطنهم يعني لديهم شيئاً. وقد عرفت شخصياً بعض المهاجرين العرب، وهم قلة قليلة جداً، لم يعد وطنهم يهمهم، بقدر ما يهمهم تيسير أمورهم العاجلة. إنهم لا يشعرون تجاه وطنهم بشيء من الحنين أو التعلق، ولا يتواصلون حتى مع أقرب أقربائهم. ولا شك أن توالي الأجيال سيجعل هذه المورثة من جملة المورثات المثبطة، في حين تنشط بالمقابل مورثات أخرى.‏

على الرغم من النقاش الدائر حول الصفات المكتسبة والصفات المورثة، فإنه بات ثابتاً أن ما ينتقل، ليس فقط المورثة، بل المكتسبة أيضاً، شريطة أن تكون المكتسبة ذات نفع مباشر، أي أن لها وظيفة ضرورية. فلو قطعنا أذناب الفئران لعشرين جيلاً، لجاء الجيل الحادي والعشرون بأذناب إذ أن للذنب وظيفة ضرورية. ولكن أحياناً نجد أن المكتسب يتأصل مثل المورث. فالبقرة على سبيل المثال حيوان نباتي، ولكنها حالما تضع تسرع إلى المشيمة وتلتهمها. وسوى التهام المشيمة عقب الوضع، لا تأكل أي شيء لحمي.‏

والسبب في ذلك يرجع إلى أنها، في قديم الزمان، كانت تضع ولا تأكل المشيمة، فتتعفن هذه المشيمة، فتشم الوحوش الرائحة، فتسعى نحوها وتكون النتيجة افتراسها وافتراس رضيعها، ومع الزمن صارت البقرة تأكل المشيمة لتأمن غزو الضواري، وبذلك حافظت على نوعها. وعلى الرغم من مرور أجيال، والبقرات تربى في مكان مضمون وفي حظائر مدروسة صحياً، فإنها ما تزال تسرع إلى التهام المشيمة، إن لم يبعدها عنها الطبيب البيطري ويتخلص منها. أما التساؤل فيما إذا كانت هذه الصفة ستستمر إلى أبد الآبدين فلا أظن الإجابة سهلة، ولكن الأرجح أن تتلاشى وتزول، أما متى؟ فلا أحد يعلم.‏

***‏

ولكن إذا كان الأمر على النحو الذي رسمنا، فإن التقدم يصبح مستحيلاً، ويغدو الحديث عن الجديد من نافلة القول. وبما أن التقدم حاصل وبما أن الجديد معاين، وبما أن المسيرة تنحو خطاً تصاعدياً، بات من اللازم الإقرار بالثنائية الضدية، التي اعتمدنا عليها في الفصلين الخامس والسادس. فإلى جانب هذا النزوع إلى القديم ثمة نزوع إلى الجديد، حب مغامرة، محاولة للتخلص من روتين الموروث. وهذا أمر يسهل إثباته، بأخذ عينة من الناس، فتجد إلى جانب الرجل القنوع رجلاً طموحاً لا يستقر على حال، وإلى جانب المحافظ، من يتبرم من السكون والرتابة. بل إنك واجد شعوباً بأسرها تميل إلى المحافظة في بعض النواحي. إن الإنكليز –مثلاً- من بين خلق الله جميعاً، يميلون إلى المحافظة الشديدة. وهذا أمر بات من المسلم به. أما الفرنسيون فأصحاب نزوع تجديدي، بصورة لا تكاد تصدق. فمنذ الستينات وحتى اليوم عثرت على أكثر من ستة اتجاهات متميزة في النقد الأدبي، الذي أطلق على نفسه النقد الحديث.‏

والاتجاه البنيوي وحده بات يشتمل على العديد من التيارات التي بلغت حد التضارب. وقد يكون الأمر أكثر مما أشرت، إذ لا تتوافر لدى الأدبيات الكاملة، التي أقرأ عنها ولا أقرأ نصوصها. ويمكن أن نصنف الشعوب الشرقية عامة أنها شعوب محافظة.‏

ولا يذهبن بنا الاعتقاد إلى حد حصر المحافظة والتجديد ضمن نطاق الأدب ولعبة الأسلوب. إن القضية أبعد من ذلك بكثير. إنها تمتد إلى الفنون التشكيلية والثقافة والفكر والأيديولوجيا والفلسفة. ومن أطرف المذاهب التي اطلعت عليها في الفن والأدب، مذهب "الكلوكوتريسم" في يوغسلافيا، وقد قابلت بعض أنصاره في بلغراد، وشرحوا لي مذهبهم، أو بالأحرى حركتهم التي تقوم على رفض كل ما هو قديم إطلاقاً، وعلى تحطيم الحدود بين الفنون، ففي لوحة واحدة تجد الرسم والنحت والأدب، ويستخدمون الوسائل السمعية في الشعر إلى درجة بعيدة. وقد تمتد نزعة التجديد فتشمل السلوك الاجتماعي.‏

وفي فرنسا، كما في كثير من الأصقاع الأوربية، أجيال جديدة، تنحو في السلوك الاجتماعي منحى جديداً، مخالفاً لكل الأعراف والتقاليد.‏

وقد عكست الأساطير الثنائية الضدية التي تمتلكها الجبلة البشرية. ويمثل الإله الروماني جانوس هذه الطبيعة الثنائية، فهو إله ذو وجهين، الأول ينظر إلى الماضي والثاني ينظر إلى المستقبل. وقد منحه هذه الطبيعة الإله ساتورن مكافأة له على استقباله إياه حين طردته الآلهة من السماء. ولو تفحصنا المذاهب والأديان والفلسفات والمدارس الفكرية لوجدناها جميعاً تقريباً بوجه جانوس. إن كل مذهب، أو كل دين، أو كل فلسفة، أو كل منزع يدعي التكامل، يحاول إقناعنا أنه السنة الطبيعية التي تسير عليها البشرية منذ بدايتها، ولذلك فإن صورة المستقبل لن تكون إلا كما يرسمها هو. فالدين المسيحي –على سبيل المثال- يرجع إلى آدم. والمستقبل الذي ينتظر البشرية هو المستقبل الذي يرسمه هذا الدين. وكل انقسام في هذا الدين أو كل تجديد، مضطر بالتالي أن يثبت هذين البعدين في دعوته.‏

والملاحظ أن المذاهب التي لا تنحو هذا المنحى، لا تصمد كثيراً، وغالباً ما تتحول إلى "تقليعة" عابرة. فالحركة الهيبية حركة رافضة، كادت موجتها أن تطغى عالمياً، ولكنها سرعان ما تراجعت، نتيجة عدم تمكين جذورها في الماضي، مما أفقدها العراقة. والناس دائماً يسعون إلى الأصول العريقة قبل سعيهم إلى قبول الموجة الرافضة.‏

***‏

بعد هذا الفاصل الاعتراضي، نرجع إلى موضوعنا الأساسي، ونتساءل: هل الأشياء القديمة جميلة بحد ذاتها؟‏

لا شك أن بعض الأشياء التي توافرت فيها عناصر الفن تحوز قسطاً وفيراً من الجمال، فالإلياذة مثلاً جميلة بذاتها، لما اشتملت عليه من فن ملحمي أخاذ. يضاف إلى ذلك أن قانون الندرة يلعب دوراً كبيراً في هذه الناحية. فلو افترضنا أن الفن الملحمي استمر –وهذا شبه مستحيل- هل تحتفظ الإلياذة بمثل هذا البريق الأخاذ؟ على أي حال، ليست الندرة ذاتها بعيدة عن الفن.‏

ولكن ثمة أشياء لم يتدخل الإنسان في خلقها، كالتي أشرنا إلى بعضها، مثل الغابات والأنهار والكهوف. هل هي جميلة لعراقتها؟ لا نظن ذلك، ففي هذا العصر التكنولوجي يمكن خلق أشكال في الطبيعة أوفى كمالاً وجمالاً من الأشياء التي ظلت بعيدة عن ملمس الإنسان. وقد يقال إن ما ينتجه، أو ما يفعله الإنسان في الطبيعة مصنَّع. ومهما كان الجمال مصنَّعاً، فإنه يظل أدنى من الجمال الطبيعي. ويمكن الرد على ذلك بأن الإنسان في هذا العصر بات قادراً على جعل المصنَّع يبدو طبيعياً إلى أبعد حد. ولكن أيضاً عندما نقوم نحن بتقديم إنتاج أدبي عن أشياء قديمة، أو حتى عن أشياء حديثة، إنما نخلق جمالاً صنعياً، إلى هذه الدرجة أو تلك. ومع ذلك تشتهر الآثار الأدبية، ويشغف الناس بها، أكثر مما يشغفون بما تحدثت عنه.‏

ولكن لو دققنا قليلاً، للاحظنا أن "جمالية" الأشياء القديمة نابعة من تركيبنا البشري، فنحن بما فطرنا عليه من توق إلى الماضي، وشغف بكل ما هو قديم، نضفي القيم الجمالية، بل نكاد أحياناً نحصرها، بذلك الماضي الملتصق بنفوسنا والمسيطر على عواطفنا. كما أن جمالية الجديد تجذبنا، وإن لم يكن بالمقدار الذي تجذبنا جمالية الأنتيكا.‏

لكن تلك الفطرة التي فطرنا عليها، والتي تشتمل على الثنائية الضدية: التعلق بالقديم والإعجاب بالجديد، عبارة عن نسب ومقادير تختلف من شخص إلى آخر. أو إذا أردنا التحدث بلغة العلم الحديث، قلنا إن الصفات (المورثة أو المكتسبة) لا تتجلى بدرجة واحدة لدى جميع الناس، وليست لها تلك الفاعلية الموحدة، بحيث يتساوى جميع الناس في الاستجابة لها. وينعكس ذلك في المواقف التي يتخذها الأفراد من مسألة القديم والجديد، مثلما يختلفون في طول القامة، ومن هنا لا يمكن أن نضع دستوراً حتمياً. فما تحدثنا عنه يختلف تبعاً للظروف والبيئات والضرورات التي تواجه الأفراد، وبالتالي يختلف باختلاف الاستجابات التي يرد بها الأفراد على تلك العوامل والمؤثرات. فقد نمر في مرحلة يسودها التذمر العام من القديم، أو العكس. وقد نمر في مرحلة يحدث فيها نوع من التوازن، فنجد الطرفين يتطرفان: حركة شعرية تجديدية متمادية، وحركة شعرية تقليدية متشددة.‏

إن مثل هذا الطرح قديم قدم الوعي الفلسفي تقريباً، ففي المذاهب والمدارس اليونانية نجد الخلاف شديداً حول مسألة الثابت والمتغير، والقيم الجمالية، والتقليد والتجديد. ومن الغريب حقاً أن يطرح فيلسوف مثل الكساغوراس قضية "الذرة" التي تشتمل في تكوينها على كل العناصر الموجودة في الكون، وحين تنشط عناصر معينة يحدث التغيير، ويكون هذا التغير مرتبطاً بطبيعة العناصر السائدة، فإذا خملت هذه العناصر لسبب أو لآخر، نشطت عناصر أخرى، وهمدت العناصر التي كانت من قبل ناشطة، فيتم التغير من جديد، لأن الذرة في تفاعل ذاتي من جهة، وفي تفاعل مع الكون من جهة ثانية، وهذا ما يجعل التغير محتوماً. وعندما تتغير فاعلية العناصر بحيث تنشط عناصر معينة، تتغير نظرة الإنسان تبعاً لتلك العناصر الناشطة. ولو استبدلنا "الذرة" الانكساغوراسية بالخلية، و "عناصر" تلك الذرة بالمورثات، لما تغير شيء من حيث النظرة، وإن كان الأمر مختلفاً بينه وبين العلم الحديث، الذي يتغلغل أكثر فأكثر في دقائق حياتنا، ويفسر لنا ما كان يعتبر سحراً خالصاً. كما يفسر لنا ما كان عرضة للأخذ والرد والتأويل. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى إمكانية تفسير تعلق الأبناء بالآباء تفسيراً مقنعاً. من غير اللجوء إلى عقدة أوديب أو عقدة اليكترا. وليست عودة أوديب إلى وطنه إلا استجابة للحنين إلى الماضي، إلى الجذور، كما أن انتقام اليكترا ليس إلا تمسكاً بالجذور التي لا تريد أن تتخلى عنها. وإذا كنا نعتمد على هاتين العقدتين، أو على غيرهما من العقد، من أجل تفسير التعلق بالماضي، فإن الأمر متعذر في عالم الحيوان، حيث لا عقد ولا كبت ولا حرمان، ولا رقيب اجتماعي، ولا قوانين قمعية، ولا غير هذا وذاك. ومع ذلك فإن تعلق المهر بالفرس ليس بسبب العقدة الأوديبية. وحين يكبر المهر يهجر أمه، تماماً كما يفعل الأبناء، أو معظم الأبناء الذين لا يتعلقون بأمهاتهم، بل إن بعضهم يجدهن عبئاً، فيحاولون الخلاص منهن، بالانتقال إلى مكان سكن مستقل، أو ينقلن هن إلى منزل آخر. وإذا كان ثمة من فرق بين فرد وآخر، من حيث الدرجة، فإن ذلك يرجع إلى أن المورثات لا تكون على درجة واحدة من الفاعلية، إنها تتأرجح من التعلق الشديد الأعمى، إلى الهجران أو الكراهية، بحسب طبيعة الفرد من جهة، وأمه من جهة ثانية، والظروف التي فيها تتم العلاقة الاجتماعية، وغير ذلك من العوامل التي لا يسمح لنا المجال بالتطرق إليها. وعلى أي حال، فإن معظم العقد التي تعرض لها وعرضها علماء النفس، تدخل في باب ميل الطبيعة البشرية إلى التطرف في هذه الناحية أو تلك، سلباً أو إيجاباً. ومن هنا كان حديث هؤلاء العلماء يدور حول "المرضى" وليس الأصحاء. والسؤال الكبير الذي نواجهه هو هل البيئة الاجتماعية وحدها المسؤولة عن العلاقات الشائعة في المجتمع؟ ألا يمكن أن يتباين فردان كل التباين وهما من بيئة واحدة؟ ألا يدفعنا هذا إلى البحث عن "تاريخ" هذا الجسد؟ وعندما نقول التاريخ فإننا نعني ذلك التفاعل الشديد الذي تم بين الجسد والبيئة، والذي يتم الآن، وسيستمر في المستقبل. ورصد التغيرات التي تحدث في البيئة الاجتماعية، لا يعفي من البحث عما يتم في المرجل التكويني للجنس البشري. وعندما ندرس التجمعات التي تبدو لنا في هذا النوع الحيواني أو ذاك، فإننا نسرع مباشرة إلى دراسة التكوين البيولوجي للحيوان بغية الاستهداء إلى هذه العلاقات المتبدية في تجمعاته، أما في المجتمع البشري، فإننا كثيراً ما نخطئ ونسير في التيار المعاكس، فندرس العلاقات الاجتماعية، من غير أن نولي الاهتمام الكافي لدراسة المرجل التكويني لهذا النوع من الكائنات الحية الراقية التي لو عدنا إلى تاريخها لعرفنا الكثير عن أسباب تصرفاتها. فقد مر حين من الدهر، لم تكن بعض الأمهات يدافعن عن أبنائهن، في حين أن بعضهن الآخر كن يدافعن عنهم ضد كل اعتداء. ومن الطبيعي أن ينقرض نسل اللواتي كن لا يدافعن عن أبنائهن، في حين يبقى نسل الأمهات اللواتي يمتن من أجل الحفاظ على هؤلاء الأبناء، ويحمل هؤلاء الأبناء تلك المورثة التي تدفعهم إلى الدفاع عن نسلهم، مما يؤهلهم للبقاء.‏

وطبعاً سوف نحصل على أجيال متماسكة فيما بينها، ومرتبطة بعضها مع بعض، أما نسل الأمهات اللواتي لا يدافعن عن أبنائهن، فإنه يسير إلى الفناء، حتى لو لم يفنه العدوان الخارجي وتخلي الأمهات عنه، إذ أنه هو نفسه سيكون ضد نفسه، وينخرط الأفراد في صراع وحشي مع بعضهم البعض. وعلى هذا فإن البنية التكوينية الملائمة للحياة هي التي تبقى، وهي التي تقيم المجتمعات، والمجتمعات نفسها لن تكون إلا تعبيراً عن تلك البنية التكوينية.. ترى أليس من الأفضل العودة إلى البدايات؟ ولكن مع ذلك، فإننا لا نقصد أبداً تنحية دراسة مؤثرات المؤسسات الاجتماعية في تلك البنية التكوينية بالذات.‏
  


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 24 - السنة السادسة - تموز "يوليو" 1986 - ذو القعدة 1406


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.