الحروب الصليبية

السبت، 8 يناير 2011

الشروح والحاشية في التراث العربي الإسلامي مخطوطة شرح التفتازاني "علي النسقي نموذجاً" ـــ أ.د.عبد الإله نبهان

إن الناظر في الفهارس التي فهرست التراث العربي لتذهله كثرة ما ألف من شروح وحواشٍ وتعليقات وما يلحق بها(2)، وقد أكثر المتأخرون من التأليف في هذا المجال، حتى إنّ بعضهم لم يؤلف غير الشروح أو ما في حيّزها، فعبد القادر البغدادي (ت 1093هـ) ألف أهم كتبه وأوسعها وأغناها في شرحه لشواهد الرضي الأسترابادي (ت 686هـ)‏

وذلك في شرحه على كافية ابن الحاجب (ت 646هـ) وسمّى شرحه "خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب" ثم شرح بعد ذلك شواهد كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري (ت 761هـ)(3)‏

ولم يكن هذا الاتجاه إلى الشرح دأب المتأخرين حسب ظن كثيرين، بل إن المتقدمين أقدموا عليه وجعلوه ديدنهم، وهكذا نرى أن كتاب سيبويه (ت 180هـ) لم يكد ينتشر في مجالس العلم آنذاك حتى تصدى لـه نفر من الشراح، فشرحه الزيادي(4) (ت 249هـ) في كتاب: شرح كتاب سيبويه. وصنف أبو العباس المبرد (ت 285هـ): المدخل إلى كتاب سيبويه وشرح شواهد كتاب سيبويه، ومعنى كتاب سيبويه، والزيادة المنتزعة من كتاب سيبويه(5)، وصنف الزجاج (ت 311هـ) شرح أبيات سيبويه(6)، كما صنّف ابن السراج (ت 315هـ) صاحب الأصول في النحو كتاب: شرح كتاب سيبويه(7)، وبعده صنّف أبو بكر مبرمان (ت 326هـ) شرح كتاب سيبويه وشرح شواهد كتاب سيبويه(8) وفي القرن نفسه صنّف أبو سعيد السيرافي (ت 368هـ) شرحه العظيم لكتاب سيبويه(9) وصنّف الرّماني (384هـ) شرحه للكتاب أيضاً(10).‏

وأقف هنا عند القرن الرابع ولا أعرج على الأندلس، ومع ذلك فإن عدد هذه الشروح خلال مئتي عام أمر ملفت للنظر وداعٍ إلى التساؤل أكان مؤلفو هذه الشروح يكرر أحدهم ما يقوله الآخر ويتبع اللاحق منهم السابق.أم كان لكل منهم خصوصيته وطريقته ومنهجه؟!‏

الحقيقة أنه لم يصل إلينا من هذه الشروح المشار إليها حتى نهاية القرن الرابع إلا شرحان وتعليقة وشرح بعض أبواب كتاب سيبويه. ويعد كتاب "ما ينصرف وما لا ينصرف(11) "للزجاج أقدم قطعة وصلت إلينا من شروح سيبويه، وتدل فصول الكتاب على أن الزجاج ألفه شارحاً أبواب الممنوع من الصرف التي اشتمل عليها كتاب سيبويه متبعاً ترتيب سيبويه وعناوينه متتبعاً مادته معلقاً شارحاً موضحاً، ما يراه بحاجة إلى توضيح ولن نقف عنده لأنه شرح لأبواب خاصة، على أن الشرح الذي وصل إلينا تاماً كاملاً هو شرح أبي سعيد السيرافي الذي ابتدئ بنشره في الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986 وصدر منه نحوُ من ربعه حسبما أقدرّ(12).‏

إن قراءة ما صدر من هذا الشرح أو ما اختير منه وطبع على هامش طبعة بولاق لكتاب سيبويه تنبئ أن عمل أبي سعيد كان عملاً بنائياً مبدعاً، إنه ليس مجردَ تعقيبات على كلام سيبويه، بل إنه إعادة بناء للنحو العربي بناءً معلّلاً مفصّلاً مدّعماً بالشواهد والأمثلة، إنه انعكاس لفهم أبي سعيد لكتاب سيبويه، فلا غرابة أن نرى هذا الشرح يغدو منهلاً للنحاة والشراح بعده، منهم مَنْ يحيل عليه، ومنهم من يأخذ منه ما يأخذ ولا يشير إلى ذلك، وإذا ما تركنا شرح أبي سعيد ونظرنا في نماذج مما وصل إلينا من شرح الرمّاني فإننا نجد أنفسنا أمام بناء جديد ومنهج طريف، فالرمّاني يقرأ الباب من الكتاب ـ كتاب سيبويه ـ ثم ينثره إلى أسئلة، ثم يقوم بالإجابة عنها إجابة موسعة، يقترن فيها الحكم بعلته وأمثلته وافتراضاته واستنباطاته، متأثراً بثقافته المنطقية وعقليته الفلسفية، حتى إن أبا علي قال ما معناه فيما روي عنه: إذا كان النحو ما يقول به الرمّاني فليس لدينا منه شيء، وإذا كان النحو ما نقول به فليس لديه منه شيء(13) وإذا وضعنا كلام أبي علي في سياقه فإننا نجد أن المقصود منه اختلاف منهج كل من الرجلين في تناوله مسائل النحو وقضاياه، ومعنى هذا أن شرح كتاب سيبويه الرمّاني يختلف عن تعليقة أبي علي، كما يختلف الشرحان عن شرح السيرافي، وإن كان الجميع يشرحون كتاباً واحداً و يعرضون للأحكام نفسها وهنا تصدق مقولة الدكتور حسن حنفي عندما قال:‏

"البحث التقريري نوع لم يعرفه تراثنا، بل إن الشروح والملحقات ذاتها لم تكن مجرد جمع مادة أو إسقاط أخرى، بل كانت محاولاتٍ فلسفيةً تزيد من نطاق التحليل الفعلي وبيان أسسها النظرية وهذا هو الشرح، أو أن تركز على الأفكار الأساسية التي تبرز من خلال التحليلات والبراهين وهذا هو التلخيص.. أما التقرير المحض الذي يجعل من الفكر مجرد تاريخ ويصبح لدينا "تاريخ الفلسفة الإسلامية" أو "تاريخ علم الكلام" أو "تاريخ التصوف الإسلامي" أو "تاريخ الفقه الإسلامي" فهذا تناقض لأن الفكر موضوعات مستقلة عن التاريخ"(14).‏

وإذا كنا قد اتخذنا من شروح كتاب سيبويه مثالاً على حيوية الشرح فإن هذا لا يقتصر عليه، بل إن لدينا الكثير من الأمثلة في مختلف العلوم التراثية سواء منها النحوية أو اللغوية أو الكلامية أو الفقهية، وغير ذلك، وسأختار مثالاً آخر من مجال النحو أيضاً، وليكن كتاب "المفصل في علم العربية" للإمام الزمخشري (ت 538) وهو كتاب في نحو العربية وصرفها، أبدع الزمخشري تبويبه وترتيبه وكان لـه غرض ديني سياسي من تأليفه، وأصبح بعد إذاعته كتاب النحو المفضّل في مجالس التعليم، وأقبل شيوخ التعليم على شرحه وقد أحصيت لـه نحواً من أربعة وسبعين شرحاً وأربعة منظومات ومختصرين وأكثر من ثمانية كتب اختصت في شرح شواهده، وكتابين تعقباه وسجلا مآخذهم عليه(15).. ونحن لا نزعم أن هذه الشروح الكثيرة تتسم بسمة الإبداع في الشرح، ولكّن بعض الشروح امتازت من بعض، ولما قارن بينها القفطي علي بن يوسف (ت 646هـ) فضّل من بينها شرح ابن يعيش الحلبي(16) (ت 643 هـ) الذي قال فيه الدكتور عبد الرحمن بدوي بعد ذلك بقرون عديدة: وبعد هذا القرن يختلط النحو بالمنطق والمنطق بالنحو، وكذا البلاغ اختلطت بالمنطق، حتى إننا نجد نحواً فلسفياً قد أقيمت أركانه على يد ابن يعيش في القرنين السادس والسابع"(17).‏

ولا غرابة في ذلك فكتب الفارسي والسيرافي وابن جني وغيرها كانت مناهل عذبة لابن يعيش ينهل منها ويزاوج بينها ويولّد العلل والأفكار محاولاً تقديم بناءً علمي محكم للنحو العربي منطلقاً من مفصّل الزمخشري. وما قدمناه هنا عن هذه الشروح النحوية يصدق على الشروح في علم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم العلوم الأخرى التي برع بها المسلمون كالطب والهندسة والجبر والنبات...‏

وسأختار مخطوطاً من مخطوطاتنا الشارحة القديمة ليكون موضوع بحث وتمثيل لما قدمناه لأنّ المخطوطات لها مزية كبيرة لأن حواشيها تكون مطرزةً بتعليقات العلماء وتعقيباتهم وإحالاتهم فهي تصور المخطوط الشارح خير تمثيل وقد اخترت لذلك مخطوطة من مخطوطات مكتبة الدكتور شاكر مطلق بحمص(18)، وقد قدّمها لي الرجل مشكوراً وعنوانها: شرح العقائد النسفية لسعد الدين التفتازاني، ويعود تاريخ نسخها إلى عام 896هـ أي بعد وفاة المؤلف بخمسة أعوام ومئة..‏

* أما العقائد النسفية فهو متن مشهور في العقائد، صنفه الإمام أبو حفص عمر بن محمد النسفي المتوفى سنة 537هـ، وهو على مذهب الإمام الماتريدي محمد بن محمد أبي منصور(19) (ت 333هـ) وهو مختصر هام، تعاورت أقلام العلماء من بعده على شرحه، فكانت لـه شروح كثيرة غزيرة، ويقول بعض الدارسين: إن شرح التفتازاني هو أهمها جميعاً(20)، ولذلك كثر الشراح الذين عنوا بشرح الشرح والتعليق عليه.‏

أما شرح العقائد النسفية فهو شرح لمتن العقائد صنّفه سعد الدين التفتازاني مسعود بن عمر، ونسب إلى تفتازان وهي قرية قريبة من نَسَا في خراسان وكانت ولادته سنة 712هـ = 1312م وكان من طلبة عضد الدين الإيجي (تـ 756هـ) صاحب كتاب "المواقف" وهو في علم الكلام، كما أخذ في دمشق عن قطب الدين الرازي التحتاني (ت 766هـ)، وقد اصطفاه تيمور لذلك وعامله معاملة كريمة لما علم بمكانته العلمية.‏

وكانت وفاة التفتازاني في سمرقند عام 791هـ = 1389م، ونقل جثمانه إلى سرخس ودفن فيها.‏

كان التفتازاني في العقائد يتبع مذهب أبي منصور الماتريدي، وهو من أئمة علم الكلام في القرن الرابع، وأتباعه الماتريديون هم علماء الكلام بين فقهاء الحنفية، وكان التفتازاني يقف إلى جانب الماتريديه في المسائل الخلافية بينهم وبين الأشاعرة. وسنضرب مثالاً لذلك نستقيه من شرح العقائد ومن مقدمة محققة(21):‏

في مسألة حرية الإنسان موضوع الكسب وصل الأشعري في تفسيره لمعنى الكسب إلى ما يشبه سلب الإنسان لقدرته على خلق أفعاله، فعنده أن القدرة التي يستعملها الإنسان للقيام بفعلٍ ما، هي مخلوقة لله في اللحظة التي يقوم فيها بهذا العمل، وهي لا تصلح إلا لهذا العمل بالذات ولا تصلح للقيام بغيره أو بضده، ويفسّر الكسب بأنه اقتران قدرة الإنسان بفعل الله.‏

أما الماتريدي فيقرر ـ موافقاً لأبي حنيفة ـ أن هذه القدرة صالحة لأي فعل، وأن الإنسان قادر على توجيهها الوجهة التي يريد، وأما معنى أنها مخلوقة لله فهو ناتج عن أن الإنسان وما يصدر عنه هو مخلوق لله، والكسب عنده هو بمعنى الخلق، ولكنه ليس خلقاً من العدم بل من مادة سابقة(22).‏

وعلى هذا فخالقية الإنسان تختلف من هذه الناحية عن خالقية الله الذي يخلق من العدم. وتثبت حرية الإنسان عنده من استحقاقه الثواب والعقاب لاستعماله قدرته وتوجيهها إلى فعلٍ من الأفعال "وقد دافع التفتازاني عن رأي المعتزلة الذين فرّقوا بين نوعين من الخلق: خلق الإنسان الذي يحتاج إلى آلة، وخلق الله الذي لا يحتاج إلى آلة بل يخلق من العدم. وهو نفس رأي الماتريدي.‏

وكذلك في كثير من الآراء كان التفتازاني إلى جانب الماتريديه كموقفه من الحسن والقبح وقِدم الصفات وخلق القرآن ورؤية الله وغير ذلك.‏

فنحن إذن أمام مخطوط في العقائد (علم الكلام) على مذهب الماتريدي لمؤلفه سعد الدين التفتازاني.. وقد كثرت شروحه والحواشي على الشروح كما أشرنا وعلل صاحب كشف الظنون كثرة شروح بعض الكتب بما يلي:‏

فهو يرى أن الكتاب يؤلف عادةً لكي يُفهم بذاته دون شرح، ولكنه يحتاج أحياناً للشرح لعدة أسباب: منها أن المؤلف يكون لجودة ذهنه دقيق العبارة، وكلامه وجيز يكفي للدلالة على المقصود ولكّن غيره ليس بمرتبته فيصعب عليه فهمه ويحتاج إلى زيادة تشرح. أو لأن المؤلف يحذف بعض مقدمات الأقيسة لوضوحها أو لأنها من علم آخر، فيحتاج القارئ إلى مَنْ يذكر لـه تلك المقدمات المهملة أو لأن بعض الألفاظ يحتمل عدة معان، أو لأن دقة المعنى تجعل من الصعب التعبير عنه بلفظ محدد، أو لأن البعض يقع في السهو والغلط والحذف فيأتي الشارح فيوضح المقصود من الألفاظ وينبّه على السهو أو الغلط(23).‏

أما أسلوب الشرح الذي اتبعه التفتازاني فهو الشرح مزجاً، وهو الذي تمزج فيه عبارة المتن مع عبارة الشرح دون تقطيع، وقد يوضع قبل المتن حرف (م) وبعد الشرح حرف (ش) أو يوضع خط فوق المتن، وهي طريقة أكثر الشراح المتأخرين، وعليها سار التفتازاني في شرحه هذا فكان شرحه من النوع الممزوج، ولم يقسم كتابه إلى أبواب أو فصول وإنما قدّمه على أنه كتلة واحدة، لذلك عمد محققه إلى تقسيمه إلى فصول، وسأذكر هذا التقسيم ليدلنا على موضوعات الكتاب:‏

ـ مدخل‏

ف 1 ـ معرفة الحقائق الثابتة ــ ف 2 ـ أسباب المعرفة.ــ ف 3 ـ العالم ــ ف 4 ـ الله ــ ف 5 ـ بعض صفات الله ــ ف 6 ـ صفات الكلام ــ ف 7 ـ صفتا الخلق والإرادة ــ ف 8 ـ رؤية الله ــ ف 9 ـ الله وأفعال العباد ــ ف 10 ـ التكليف ومسؤولية الإنسان ــ ف 11 ـ أحوال الآخرة ــ ف 12 ـ الكبائر ــ ف 13 ـالإيمان ـ ف 14 ـ الرسل والملائكة ـ ف 15 ـ المعجزات والكرامات ـ ف 16 ـ الخلافة والإمامة ـ ف 17 ـ نبذ من المسائل التي يتميز بها أهل السنة عن غيرهم.‏

وقد انتشر كتاب العقائد النسفية مقترناً بشرحه للتفتازاني، وأصبح معوّلاً عليه في تعليم العقيدة، وتعليل ذلك كما يرى أبو الحسن الندوي "أن أبا الحسن الأشعري (تـ 324) كان دائماً في معارضةٍ وأخذٍ وردّ على المعتزلة، فدخل في بحوثه وأفكاره ما قد لا يخلو من الغلو، وقد زاد الأشاعرة بعده في الأمر، وأضافوا إليه أشياء. وقد جاء أبو منصور الماتريدي فحذف هذه الزوائد والالتزامات التي كان من الصعب إثباتها وإقامة الدليل عليها، وكانت تحتاج إلى تكلف وتأويل، وتناول علم الكلام بالتهذيب والتنقيح حتى أصبح أكثر توسطاً واعتدالاً "ومن المفيد أن نعرف" أن الخلاف بينه وبين الأشعري كان جزئياً ومحدوداً، والمسائل التي خالف فيها الماتريدي الأشعري لا تزيد على أربعين مسألة. الخلاف في معظمها لفظي(24) وقد مثلت العقائد النسفية زبدة مذهب الماتريدي، وأعيد بسط المذهب وصوغه على يد التفتازاني. ونشر شرح العقائد غالباً مقترناً بالحواشي فقد نشر في كلكتا عام 1260هـ وبهامشه حواشٍ للمولوي خادم حسين العظيم آبادي وفي لكناهور 1286هـ مذيلاً بحاشية الخيالي وفي مصر 1321هـ وفي مطبعة شاكر 1331هـ ـ 1913م وفي قازان 1897 بهامشه شرح العصام وفي قازان أيضاً 1898م وبهامشه حاشية المولى مصلح الدين مصطفى الكستلي على شرح العقائد ثم يتلوه حاشية المولى الخيالي على شرح العقائد وبهامشه حاشية الشيخ رمضان بن عبد المحسن المعروف بهشّتي وبآخره متن العقائد. وفي الآستانة 1313هـ وسنة 1323هـ.‏

وبين يديّ طبعة الآستانة 1313هـ وفيها شرح العقائد للتفتازاني ومعها حاشية الكستلي مصلح الدين مصطفى الكستلي (ت 901هـ) ويليها حاشية أحمد بن موسى الشهير بخيالي على شرح العلامة التفتازاني وبهامشها حاشية الفاضل الشيخ رمضان بن عبد المحسن المعروف ببهشتي (تـ 979هـ).‏

وقد صدر شرح العقائد النسفية للتفتازاني محققاً عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1974 حققه كلود سلامة معتمداً ثلاث نسخ من مخطوطات الظاهرية إضافة إلى نسخة المتحف البريطاني.‏

أما نسختنا موضوع الدراسة فهي كما ذكرنا من مقتنيات الدكتور شاكر مطلق وتقع في سبعة وتسعين ورقة (97 × 2 = 194 صفحة) قياس (22.5 × 13) في الصفحة 15 سطراً متوسط كلمات السطر 10 كلمات وقد كتب بخط ممزوج من النسخ والرقعة، وطرزت هوامش الشرح، بحواشٍ كثيفة.‏

وقد ذكر التفتازاني في مقدمته للشرح خصائص الشرح الذي قام به والسبب الدافع به إلى الشرح فقال: إن المختصر المسمّى بالعقائد للإمام الهمام قدوة علماء الإسلام نجم الملة والدين عمر النسفي أعلى الله درجته في دار السلام يشتمل من هذا الفن على غرر الفوائد ودرر الفرائد، ضمن فصول هي للدين قواعد وأصول، وأثناء نصوص هي لليقين جواهر وفصوص، مع غاية من التنقيح والتهذيب، ونهاية من حسن التنظيم والترتيب، فحاولت أن أشرحه شرحاً يفصّل مجملاته ويبيّن معضلاته وينشر مطوياته، ويظهر مكنوناته،مع توجيه الكلام في تنقيح، وتنبيه على المرام مع توضيح، وتحقيق للمسائل غبَّ تقرير، وتدقيق للدلائل إثر تحرير، وتفسير للمقاصد بعد تمهيد، وتكثير للفوائد مع تجريد، طاوياً كشح المقال عن الإطالة والإملال(25).‏

وسنضرب مثلاً من شرح التفتازاني: الورقة السادسة:‏

قال النسفي: "قال أهل الحقّ" شرح التفتازاني هذه العبارة مركزاً على كلمة (الحق) بقوله: وهو الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله: الباطل. وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة، ويقابله: الكذب، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم، فمن صدق الحكم مطابقته للواقع ومعنى حقيقته مطابقة الواقع إياه".‏

وهنا فسّر التفتازاني كلمة (الحقّ) بالحدّ المنطقي، ثم أورد نقيضها وهو باطل، وعرج على ما يتّصل بالحق وهو الصدق وأورد حدّ الصدق كما هو عند أهل المنطق.‏

والآن ننظر إلى الورقة (6) من مخطوطنا لنرى ماذا كتب قارئ النسخة ومحشّيها: وقف عند عبارة قال "أهل الحق" وهي عبارة لم يفسرّها الشارح فقال المحشّي: الظاهر أن المقول مجموع ما في الكتاب، فالمراد بأهل الحقّ أهلَ السنّة وإن خصّ بقوله خصائص الأشياء ثابتة. فالمراد من أهل الحق في هذه المسألة مبهم ما عدا السوفسطائية عن أخرهم، ويحتمل أن يراد أهل الحق في جميع المسائل وتخصيصهم بالذكر اعتداداً بهم فكأنهم هم القائلون. وقد كتب المحشّي بعد هذه العبارة كلمة (خيالي) وهذا يدل على أن القارئ كان يقرأ وأمامه حاشية خيالي، فكان يثبت على الهامش ما يراه مغنياً لنص الشارح ومفسراً لـه ومعمقاً معناه ومبيناً عن مقاصده. وقد راجعت النص في الحاشية المذكورة فوجدته منقولاً نقلاً دقيقاً.‏

وقف المحشّي عند كلمة (الحكم) في قول التفتازاني بأن الحكم مطابق للواقع وقال:‏

قال بعض المحققين: الحكم هنا بمعنى الإيقاع والانتزاع والمراد من الواقع المعلوم.‏

وقال الشارح في بعض تصانيفه: المراد الحكم الوقوع‏

ومن الواقع ما في نفس الأمر، فعلى الأولى يكون صفة للعلم‏

وعلى الثاني للمعلوم التصديقي، يعني أن المراد بالحكم‏

إما المسألة وإمّا التصديق بها.‏

ودوّن بعد هذا التعقيب توقيع (محيي الدين) وهو لقارئ المحشي الذي حرص على تدوين الفوائد على هامش الشرح. وهو حتماً غير الناسخ الذي دوّن اسمه في آخر النسخة.‏

وعند كلمة الحق من قول التفتازاني. كتب المحشي بخط دقيق بين السطرين:‏

وفي كلام الرئيس أن الحق يطلق على الموجود مطلقاً وعلى الموجود دائماً وعلى القول والفعل إذا طابقه الواقع ـ وبعدها توقيع لم أتبينه مما يدل على أن النسخة قد مرّ عليها عدد من القراء المدققين الذين أغنوها بحواشيهم ونقولهم من كتب أخرى ذات علاقة بالموضوع.‏

وفي الورقة السابعة من المخطوط وهي مكتظة بالحواشي والتعليقات اكتظاظاً كبيراً نجد في الصفحة أ ـ قول الشارح التفتازاني: وقيل: المراد به ـ العلم المتحقق ـ العلم بثبوتها ـ أي ثبوت الحقائق ـ للقطع بأنه لا علم بجميع الحقائق. والجواب أن المراد بها الجنس رداً على القائلين بأنه لا ثبوت لشيء من الحقائق ولا علم بثبوت حقيقة ولا بعدم ثبوتها خلافاً للسوفسطائية فإن منهم مَنْ ينكر حقائق الأشياء ويزعم أنها أوهام وخيالات باطلة وهم العنادية.‏

قال المحشي: قوله وهم العنادية: سمّوا بها لأنهم يعاندون ويدّعون الجزم بعدم تحقق نسبة أمرٍ إلى آخر في نفس الأمر، ويقولون: ما من قضيةٍ بديهية ونظرية إلا ولها معارضة تقاومها وتماثلها في القوة. وبه يظهر أن إنكارهم لا يختص بحقائق الموجودات، فتخصيص إنكارهم لها بالذكر جرى على وفق السياق والأظهر أن يحمل الأشياء ههنا على المعنى الأعم.‏

وكتب المعلق تحت هذا النقل كلمة (خيالي) مما يعني أنه يتابع الشرح ويدون على هامشه الفوائد المستمدة من تلك الحاشية.‏

لنا أن نفترض أن المعلق وقف عند كلمة (العنادية) ووجد أنها تذكر في الشرح لأول مرّة من غير ما تفسير أو تحديد، وربما كان هو لا يعرف مدلولها، لذلك سارع إلى حاشية خيالي فوجد فيها ما يريده من توضيح فدونه على حاشية الشرح رغبة في الإفادة وفي تحديد معاني المصطلحات التي ترد في الشرح.‏

ومن الورقة ـ 15 ـ نختار بعض التعليقات على الشرح. قال التفتازاني:‏

وأما خبر الواحد العدل وتقليد المجتهد فقد يفيدان الظن والاعتقاد الجازم الذي يقبل الزوال، فكأنه أراد بالعلم ما لا يشملها وإلا فلا وجه في حصر الأسباب بالثلاثة.. والعالم أي ما سوى الله تعالى من الموجودات مما يعلم به الصانع. يقال: "عالم الأجسام، وعالم النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك فتخرج صفات الله تعالى لأنها غير الذات كما أنها ليست عينها".‏

وقف المعلق عند كلمة الموجودات فقال: وإنما قيد بالموجودات ليخرج المعدومات إذ لا يطلق عليها العالم بحسب الاصطلاح..‏

وكتب تحت هذا المقبوس: قطب الرازي.‏

ويقف عند عبارة "خبر الواحد" فيعلّق عليها بقوله:‏

وخبر الواحد يوجب العمل دون العلم اليقيني، وقيل: لا يوجب شيئاً منهما، وقيل يوجبهما معاً. وبعد ذلك ذكر كلمة "تلويح" وهو يعني به كتاب "التلويح إلى كشف حقائق التنقيح" للسعد التفتازاني. وهو كتاب في أصول الفقه شرح فيه كتاب تنقيح الأصول لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي (تـ 747هـ) وقد أكثر المعلق على الشرح من النقل عن التلويح في حواشيه المدونة على هذه المخطوطة.‏

وعلق على تعريف العالم بقوله:‏

وتعريفه العالم بهذا التعريف لا ينافي حصر العالم في العدد المخصوص لأن الحصر باعتبار الأنواع لا باعتبار الأفراد. ولكن المناسب على هذا التفسير أن يقال: العالم بجميع جزئياته لأن كل واحد من السماوات وما فيها فرد من أفراد العالم إلا أن العالم بهذا التفسير كما يصدق على كل واحد من الأعيان والأعراض كذلك يصدق على المجموع فبهذا الاعتبار يصير كل واحد جزءاً فيصح إطلاق الأجزاء، كما أن القرآن يصدق على البعض والكل باعتبار الأجزاء تصير السور والآي أجزاءً من القرآن.‏

وقد اقتبس المعلق هذا التوضيح من شرح المواقف كما ذكر وورد في الورقة ـ 15 ـ أيضاً عبارة التفتازاني:‏

والإلهام المفسّر بإلقاء معنىً في القلب بطريق الفيض ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق، حتى يرد به الاعتراض على حصر الأسباب في الثلاثة...‏

كتب المعلق بخط دقيق: هذا ردّ على الطائفة من الناس يقولون لا طريق لمعرفة الأشياء إلا بالإلهام.‏

ونجد بعد ذلك إشارة لعلها رمز لأحد المراجع التي ينقل عنها.‏

وفي الورقة ـ 15 ـ أيضاً وردت عبارة (السماوات السبع) فوضع المعلّق التعليق التالي:‏

سماء القمر وسماء عطارد وسماء الزهرة وسماء الشمس وسماء المريخ وسماء المشتري وسماء زحل وسماء الكرسي والعرش.‏

وتحت ذلك كتبت كلمة (بردعي) فهذا هل اسم المعلّق أم اسم مؤلفٍ ما؟‏

ما عرضناه وهو جزء بسيط يمثل لنا طبيعة التعليقات التي دونت على هذا الشرح ويمكن أن نذكر أسماء بعض المراجع التي أشير إليها في نهاية التعليقات:‏

التلويح [سبق ذكره].‏

المطول [المطول على التلخيص للتفتازاني. بلاغة].‏

الكشاف [تفسير الزمخشري].‏

شرح المواقف [المواقف لعضد الدين الإيجي، وشرحه للسيد الشريف الجرجاني (816هـ)].‏

حاشية خيالي [ذكرت في مراجع البحث].‏

المجمل [معجم لغوي لابن فارس الرازي تـ 395].‏

التوضيح [التوضيح في حل غوامض التنقيح لصدر الشريعة الأصغر (تـ 747هـ)].‏

شرح المقاصد [شرح مقاصد الطالبين في أصول الدين للتفتازاني].‏

العمدة [عمدة عقيدة أهل السنة والجماعة للنسفي أبي البركات ـ 710هـ].‏

شرح البزدوي [كتاب البزدوي هو كنز الوصول إلى معرفة الأصول وشرحه عبد العزيز البخاري].‏

إضافة إلى ذلك فإن بعض التعليقات ذيلت بأسماء كصلاح الدين من غير ذكرٍ للمرجع. كما أن بعض التعليقات كتبت بخطوط مخالفة للخط الغالب في معظم التعليقات.‏

وهكذا تتأكد لدينا فكرة أن الشروح ليست تكراراً واجتراراً وإنما لها أغراضها وأهدافها وفيها إضافاتها، وإذا كان المتن الموجز يقدم لنا العلم المقصود صافياً، فإن الشرح يعد مشهداً لتمازج العلوم واستفادة بعضها من بعض.. إن الشرح المستفيض يعد إعادة بناء وتشكيلاً جديداً للعلم المشروح وإن مخالطة هذه الشروح والحواشي ومحاولة الاستفادة منها ستشعرنا بقيمها وتهدم جدار العزلة بيننا وبينها وذلك الجدار الذي يختبئ وراء تسميتها بالكتب الصفراء أو الحواشي البالية.. وما شابه ذلك مما يحجب عنا غزير الفوائد ونادر الفرائد.‏

أهم مراجع البحث‏

1 ـ ابن يعيش النحوي. د. عبد الإله نبهان. اتحاد الكتاب العرب. دمشق 1997.‏

2 ـ الأعلام. خير الدين الزركلي ـ دار العلم للملايين ـ بيروت 1979.‏

3 ـ إنباه الرواة. القفطي ـ تح محمد أبي الفضل إبراهيم ـ دار الكتب ـ القاهرة 1955.‏

4 ـ بغية الوعاة. السيوطي تح محمد أبو الفضل إبراهيم ـ البابي الحلبي ـ القاهرة ـ 1965.‏

5 ـ التراث والتجديد. د. حسن حنفي ـ دار التنوير ـ بيروت 1981.‏

6 ـ التعليقة على كتاب سيبويه. أبو علي الفارسي. تح د. عوض بن حمد القوزي. مط الأمانة ـ القاهرة ـ 1990.‏

7 ـ حاشية أحمد بن موسى الشهير بخيالي على شرح العقائد للتفتازاني المطبعة العثمانية ـ الآستان 1313هـ.‏

8 ـ حاشية الكستلي على شرح العقائد النسفية. المطبعة العثمانية الآستان 1313هـ.‏

9 ـ رجال الفكر والدعوة في الإسلام. أبو الحسن الندوي. دار الفكر ـ دمشق 1960.‏

10 ـ شرح العقائد النسفية في أصول الدين وعلم الكلام. تح كلود سلامة ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1974.‏

11 ـ شرح كتاب سيبويه ـ السيرافي. تح د. رمضان عبد التواب و د. محمود فهمي حجازي الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1986.‏

12 ـ الفهرست ـ ابن النديم. تح رضا تجدد ـ طهران 1971.‏

13 ـ معجم المطبوعات العربية والمعربة. يوسف اليان سركيس الدمشقي ـ دار صادر ـ بيروت (مصورة عن مطبعة 1928).‏

14 ـ المنطق الصوري والرياضي. د. عبد الرحمن بدوي ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ 1968‏

(1) أستاذ جامعي سوري.‏

(2) انظر على سبيل المثال كتاب الفهرست لابن النديم، وأيَّ فهرس للمخطوطات العربية كفهارس المكتبة الظاهرية بدمشق مثلاً.‏

(3) خزانة الأدب لـه طبعة قديمة متداولة على هامشها شرح شواهد الألفية للعيني (ت 855هـ) وتقع في أربعة مجلدات ط بولاق. ثم نشرت في ثلاثة عشر مجلداً مع فهارس شاملة بتحقيق المرحوم الأستاذ عبد السلام محمد هارون.‏

(4) الفهرست: 63.‏

(5) الفهرست: 65.‏

(6) الفهرست: 66.‏

(7) الفهرست: 68.‏

(8) إنباه الرواة 3: 190.‏

(9) الفهرست: 68.‏

(10) الفهرست: 69.‏

(11) صدر هذا الكتاب في القاهرة عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بتحقيق هدى قرّاعة.‏

(12) صدر منه حتى اليوم عشرة أجزاء (هيئة التحرير).‏

(13) بغية الوعاة 1: 181.‏

(14) التراث والتجديد (70).‏

(15) ابن يعيش النحوي: 140 ـ 143.‏

(16) إنباه الرواة 4: 39.‏

(17) المنطق الصوري: 37.‏

(18) شاكر مطلق ابن فرحان ولد عام 1938. طبيب عيون وشاعر وكاتب ومترجم، لـه عدد من داوين الشعر والكتب المترجمة عن الألمانية وله اهتمام بالشؤون الثقافية والآثار والتاريخ القديم.‏

(19) الماتريدي. انظر ما كتبه عنه أبو الحسن الندوي في كتابه رجال الفكر والدعوة في الإسلام: 136 وما بعدها.‏

(20) مقدمة لشرح العقائد النسفية لكلود سلامة: 33.‏

(21) المصدر السابق: 16.‏

(22) المصدر السابق: 17 وانظر الشرح: 94.‏

(23) كشف الظنون: 36.‏

(24) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: 136.‏

(25) شرح العقائد: 3، 4.‏
  

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 106 السنة السابعة والعشرون - نيسان 2007 - ربيع الآخر 1428

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.