الحروب الصليبية

الأحد، 9 يناير 2011

الكتابة والكتاب والمكتبات لدى الحَضارات القديمة في المشرق الأوسَط ـــ ت.د.محمد موفاكو

1 ـ السومريون:‏

تبدأ قصة الكتاب في السهول الخصبة للجزء الجنوبي من بلاد ما بين النهرين، حيث أقام هناك حضارة متقدمة أحد أغرب الشعوب في تاريخ الإنسانية ـ الشعب السومري.‏

وفي الواقع أن مصير هذا الشعب فريد من نوعه لأسباب كثيرة. فحتى اليوم، وعلى الرغم من الأبحاث الأركيولوجية الكثيفة ودراسة الجوانب المادية والروحية لحضارته، لم يتم التوصل إلى الكشف عن أصل هذا الشعب ولا عن الجنس الذي ينتمي إليه. وهناك من يفترض أن السومريين في النصف الثاني للألف الخامس قبل الميلاد، وحتى أقدم من هذا عند بعض الباحثين، قد هبطوا من الشمال ـ وربما من منطقة بحر قزوين ـ واستوطنوا الجزء الجنوبي للمنخفضات الخصبة بين دجلة والفرات. وبعد عدة قرون من قدومهم فقط كان هؤلاء قد أقاموا حضارة ممتازة، ومن هذه الحضارة تشربت كل الحضارات الكبرى التي تطورت في الشرق الأوسط. إلا أن السومريين سرعان ما اختفوا من ساحة التاريخ جاء بعدهم الأكاديون والبابليون والآشوريون وغيرهم، الذين أخذوا وطوروا ما كانت قد وصلت إليه حضارة السومريين، ولذلك فقد اقترنت لاحقاً بهذه الشعوب الإنجازات الحضارية في حقل المعرفة، وتنظيم الدولة، والأدب الخ. وهكذا فقد ضاع في النسيان حتى اسم السومريين وبقي منسياً حتى القرن التاسع عشر، حين أخذت الحفريات الأركيولوجية تكشف عن المدن السومرية، وعن أقنية الري، وعن المعابد الضخمة، وعن آلاف الألواح الطينية التي نقشت عليها الحروف المسمارية أو الحروف التصويرية. وهكذا أصبحنا نعرف الكثير عن السومريين، وعاد العلم للاعتراف لهم بالكثير من الإسهامات التي كانت تنسب على مر القرون إلى الشعوب الأخرى. وعلى رأس هذه الإسهامات، التي تضمن مكان الشرف لهذا الشعب في تاريخ الحضارة العالمية، تأتي الكتابة والكتاب والمكتبات.‏

وفيما يتعلق بالكتابة مازلنا لا نعرف على وجه اليقين هل أن السومريين بالذات هم الذين قاموا أولاً بالتعبير عن الفكر بالحروف، مع أن هذه الفرضية تعتبر الأكثر شيوعاً. إن أقدم الشواهد على الكتابة السومرية هي التي الألواح الطينية الصغيرة مع الأسماء التي نقشت بالحروف التصويرية، وهي التي تعود إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد. ولكن من المحتمل أن يكون السومريون قد كتبوا قبل هذا التاريخ على مواد أخرى ذات تركيبة عضوية، وأن تكون هذا المواد قد تحللت وتلاشت للأبد. ومن المحتمل أيضاً ألا يكون السومريون هم أول من توصل إلى تطوير الحروف كوسيلة جديدة للتواصل، أي أن يكونوا قد أخذوا ذلك عن شعب آخر غير معروف كان يعيش قبلهم في الجزء الجنوبي من بلاد ما بين النهرين. وربما هنا تجدر الإشارة إلى النظرية الجديدة التي تقول أن السومريين قد تعلموا الكتابة من أحد الشعوب الذي كان يعيش على ضفاف نهر الدانوب، ولكنهم قاموا بدورهم في تطوير هذه الكتابة. وقد أصبحت هذه الفرضية مقبولة أكثر منذ أن تم العثور خلال 1961 على الألواح الطينية التي تعود إلى العصر الحجري الأحداث في منطقة تارتاريا برومانيا. فالتشابه بين الرموز الواردة في هذه الألواح وبين أقدم الكتابات التي خلفها السومريون واضح للغاية، ولذلك فقد استخلص علماء الآثار أن هذه الرموز، بالإضافة إلى الكثير من أمثالها التي تم اكتشافها قبل وبعد 1961 على ضفاف الدانوب، قد نشأت تحت تأثير الحضارات الكبرى للشرق الأوسط. إلا أن نتائج التحاليل الراديو كربونية قد فاجأت وحيرت الخبراء لأنها أوضحت أن تلك الرموز الدانوبية أقدم بمئات السنين من أقدم الأواح السومرية. وليس من المستبعد أن تفاجئنا التحاليل الراديوكربونية في المستقبل أيضاً. ولذلك فإن الوقت باكر جداً لطرح رأي نهائي حول هذا، أي من تأثَّر بالآخر. وبغض النظر عن الأسبقية الآن فهناك حقيقة يمكن أن نؤكدها فوراً، ألا وهي أن السومريين هم أول من أخذوا الحروف التصويرية تدريجياً بحيث بسطوها وحولوها إلى نظام رموز لكل الخصائص الصوتية البارزة.‏

لقد تم العثور على مئات من الألواح الطينية بالحروف التصويرية، وهي أقدم الحروف التي طورها السومريون، في مدينة أوروك Uruk وهي تعود إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد. وفي ذلك الوقت كان السومريون يستعملون حوالي 2000 حرف تصويري، إلا أن هذا العدد أخذ يقل تدريجياً نتيجة لتزايد ترابط الحروف بالأصوات حتى وصل إلى 500 ـ 600 حرف خلال الألف الثانية قبل الميلاد. وبالإضافة إلى ذلك فإن شكل الحروف السومرية في حد ذاته قد تغير على مر القرون. فالرسوم الأساسية من المرحلة التصويرية ستتحول إلى رموز تنسجم من تصور معين لا تشبه كثيراً الأصول الأولى التي تطورت منها. وقد ساهم بالنمو المورفولوجي للرموز الأسلوب الجديد في تدوينها على الطين اللين وذلك بالأقلام الحادة من القصب أو الخشب، التي كانت تخلِّف على الطين آثاراً ثلاثية الشكل تشبه المسامير. ومن هنا جاءت تسمية هذه الحروف ـ الحروف المسمارية. وقد نجح السومريون في تطوير هذه الحروف إلى حد أنهم استطاعوا أن يدونوا بها أدق المفاهيم التجريدية وأرق المشاعر.‏

إلا أن الحروف التصويرية في البداية، وحتى الحروف المسمارية لاحقاً، لم تنشأ ولم تتطور بدافع الرغبة في أن تكتب بها القصائد والحكايات أو النصوص العلمية ـ التعليمية. فقد طور السومريون الحروف لدواع عملية، أي لكي يسجلوا بها الاتفاقيات التجارية والمعاهدات مع الدول الأخرى، أو لكي يدونوا بها البضائع والمواشي التي يدين بها الأفراد للمعابد أو للمسؤولين المحليين الخ. وحتى في القرون اللاحقة، أي خلال ازدهار الإمبراطوريتين البابلية والآشورية وبقية الدول في الشرق الأوسط، فإن الحروف كانت في الدرجة الأولى تستعمل لغايات منفعية. فمن كل النصوص التي تم العثور عليها حتى الآن، سواء أكانت مدونة على الألواح الطينية أو الأحجار أو على بقية المواد الأخرى التي كانت تستعمل للكتابة، نجد أن 95% من هذه النصوص تتعلق بأمور التجارة والإدارة وشؤون الدولة. وهكذا فإن هذه النصوص لها أهمية لا تقدر بثمن بالنسبة للتاريخ السياسي والإداري للإنسانية، ولكن فيما يتعلق بالتاريخ الحضاري فإن النصوص الأخرى التي تتضمن الأدب والقوانين والميتولوجيا والفلك والبيطرة والتاريخ الخ. تعتبر ذات أهمية أكبر. إن القراءة المتأنية لتلك الألواح. التي غالباً ما تكون مفتَّتة ومشوهة، قد قادت بالفعل إلى معارف مثيرة. فقد كشفت هذه الألواح أن السومريين كان لهم أدب غني ومتطور وكانوا يعرفون أسس الكثير من المعارف الطبيعية، بالإضافة إلىأنهم كانوا يتمتعون بميتولوجيا غنية جداً. وفي هذه الميتولوجيا يمكن أن نرى الكثير من الموتيفات التي استحوذت عليها لاحقاً كل الشعوب في الشرق الأوسط، والتي عايشت كل التغيرات التاريخية لتصل إلى وقتنا هذا.‏

كان السومريون يحتفظون بالألواح الطينية في أماكن خاصة داخل المعابد أو القصور الملكية أو المدارس. وقد تم العثور على بقايا هذه المكتبات أو مراكز الوثائق في المدن السومرية الكبيرة كـ لاغاش Lagash وأور Ur وأورك Uruk ونيبور Nippur الخ. إلا أننا لا نعرف الكثير عن مظهر هذه المكتبات أو مراكز الوثائق ولا نعرف شيئاً عن تنظيمها وعملها. ومع ذلك فإن الخبير الأميريكي بتاريخ وثقافة السومريين س. ر. كارمر قد سلط ضوءاً ساطعاً على هذه القضية المثيرة. فقد كشف عن أن أحد النصوص المدونة على لوح طيني محفوظ في المتحف الجامعي في فيلادلفيا الأمريكية ما هو إلا فهرس لإحدى المكتبات. وفي الواقع إن هذا اللوح الطيني يعود إلى حوالي 2000 سنة قبل الميلاد، وقد تم العثور عليه في بقايا مدينة نيبور، المركز الديني والثقافي للسومريين، حيث اكتشفت أيضاً الكثير من الألواح الطينية الأخرى بالإضافة إلى مقر للكتابة ومدرسة أيضاً. وعلى الوجه الأمامي والخلفي لهذا اللوح الطيني نجد سجلاً لاثنين وستين كتاباً في موضوعات مختلفة، حتى أن الكتب الـ 13 الأخيرة تنتمي إلى مجموعة "الحكمة". إن هذه المعطيات تقود إلى أن الألواح الطينية في مكتبات ذلك الوقت كانت تتوزع على مجموعات متنوعة حسب الموضوعات المختلفة. وإذا كان كرامر على حق في ما وصل إليه فإن هذا أول أشعار عن وجود نظام للتصنيف الأولي في المكتبات السومرية.‏

ومن نيبور لدينا أيضاً لوح أخر محفوظ الآن في متحف اللوفر بباريس. وكان قد عثر عليه كرامر الذي لا يعرف الكلل والملل. وفي هذا اللوح نجد بعض عناوين الكتب التي دونت أيضاً في اللوح المحفوظ في فيلادلفيا، ولكن لدينا بعض العناوين الجديدة بحيث يصل مجمل عدد العناوين المذكورة على وجهي اللوح إلى 87 عنواناً. وهنا لم تخف على عين كرامر الخبير بعض التفاصيل في الخط الموجودة في اللوح الأول والثاني بحيث قاده ذلك إلى القول بأن هذين اللوحين قد كتبتهما يد واحدة.‏

إننا لا نستغرب لكون القائمين برعاية تلك الألواح، لكيلا نقول العاملين في المكتبات ومراكز الوثائق، الذين كان عليهم أن يجدوا اللوح المطلوب بين مئات الألواح، قد عمدوا إلى ترتيب تلك الألواح في الرفوف بشكل منطقي. فقد كان في وسعهم مثلاً أن يضعوا الألواح التي تتضمن موضوعات ميتولوجية في أحد الرفوف، وأن يضعوا في رف آخر الألواح التي تختص بالرياضيات. ومن الصعب هنا أن نقطع بأن هذا الفهرس، كما نعرفه الآن، له قيمة عملية ولكنه دون شك يكشف لنا عن جهد العاملين في المكتبات ومراكز الوثائق لوضع وسيلة للتوصل إلى ما هو مطلوب وسط الألواح الكثيرة الموجودة في المكتبات.‏

لقد سادت الثقافة السومرية في بلاد ما بين النهرين لفترة طويلة تزيد على ألف وخمسمائة سنة، أي من منتصف الألف الرابعة حتى بداية الألف الثانية قبل الميلاد. وخلال هذه الفترة الطويلة تمكن الكتاب السومريون من تدوين عدد كبير من النصوص في موضوعات مختلفة وفي نسخ متعددة. فبعض الحكايات الشائعة، كما هو الأمر مع البطل السيئ الحظ جلجاميش، قد حفظت في نسخ كثيرة وروايات متعددة. وقد كان السومريون أول من سجل هذه الحكاية ثم قامت بتسجيلها بعض الشعوب الأخرى التي توارثت حضارتهم في تلك المنطقة. إلا أن الكتاب السومريين لم ينسخوا الأعمال الأدبية والميتولوجية فقط بل دونوا أيضاً القواميس والنصوص المتعلقة بالبيطرة والرياضيات وغير ذلك من النصوص التي سجل فيها إنسان ذلك الوقت معارفه وإنجازاته التكنيكية. وفي الواقع أن السومريين هم أو من سجل تلك الإنجازات بهدف واضح، وهو أن يحفظوها للأجيال القادمة. وبعبارة أخرى فإن السومريين هم الذين خصّوا الكتاب بالدور الذي ارتبط به حتى هذه الأيام أي أنْ يكون الحافظ للإنجازات الإنسانية الثقافية والتكنولوجية، ولكن بالإضافة إلى دوره الآخر بخدمة الحاجات الرسمية والتعليمية وغير ذلك من الحاجات اليومية.‏

في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد أخذ الأكاديون الساميون ينتشرون في بلاد ما بين النهرين، وتحت تأثير الضربات من هؤلاء القادمين الأشداء بدأ السومريون يتلاشون من منصة التاريخ. وهكذا بعد صعود قصير وباهر منذ الألف الثانية قبل الميلاد، حين عايشت الحضارة السومرية أهم ازدهار لها، جاء الأموريون الساميون ليدمروا مقر دولتهم مدينة أور، وليضموا أراضي السومريين إلى حكمهم، وعلى أنقاض دولة السومريين والحضارة السومرية ستتطور لاحقاً الدولة القوية للبابليين.‏

2 ـ البابليون:‏

أخذ البابليون وطوروا كل ما خلفه السومريون في المجال الروحي وفي حقل الحضارة المادية. فمن هؤلاء أخذ البابليون الحروف المسمارية وكل المعارف الرياضية والفلكية الخ، بالإضافة إلى أسلوب بناء المدن والسدود الخ. ولكي يفهموا النصوص التي ورثوها عن السومريين فقد كان على البابليين أن يضعوا المعاجم العديدة وأن يترجموا النصوص الأدبية وغيرها. وأن يتابعوا تطوير المعارف من حيث توقف السومريون. وهكذا فقد تفوق المنتصرون الساميون الذين انبهروا بالتركة الروحية، على السومريين المهزومين في مجال الثقافة والمعارف. فقد تحولت ملحمة جلجاميش وغيرها من الأعمال الأدبية إلى جزء لا يتجزأ من الأدب البابلي.‏

ورث البابليون أيضاً عن السومريين الموهبة الكبيرة للكتابة، بل إن البابليين قد تفوقوا هنا على أساتذتهم السومريين. ففي عصر الازدهار الكبير، وخاصة خلال عهد حمورابي في القرن 18 ق. م، توصل البابليون إلى إنتاج كتابي ضخم مما دفع العالم الأركيولوجي الألماني ر. غولدوي R. Goldewey الذي قام بالتنقيب عن العاصمة بابل، إلى أن يطلق على البابليين "عشاق الكتابة". وفي الواقع إن عدد الألواح الطينية البابلية التي تم اكتشافها حتى الآن يتجاوز 600 ألف لوح تتضمن مختلف الموضوعات.‏

وكما في العصر السومري فقد كان البابليون أيضاً يدونون وينسخون الألواح في مكاتب خاصة ويحفظونها في المكتبات ومراكز الوثائق، التي كانت تنتشر في إطار المعابد أو قصور الحكام. وقد تم اكتشاف مكتبات من هذا النوع، تحتوي كل واحدة على عشرات الآلاف من الألواح، في مدن كيش Kish وسيبار Sippar وفي بقية المراكز الثقافية البابلية.‏

وبالإضافة إلى البابليين فقد استعملت الحروف المسمارية والألواح الطينية شعوب أخرى في بلاد ما بين النهرين وفي البلاد المحيطة بها، وقد تمكن أيضاً بعض هذه الشعوب من إنجاز إنتاج كتابي ضخم وتنظيم جيد للمكتبات.‏

3 ـ المكتبة الرسمية في إيبلا:‏

إن هذا المكتبة أو مركز الوثائق تستحق عناية خاصة بسبب بعض التفاصيل المتعلقة بها. وقد تم اكتشاف هذه المكتبة مؤخراً في تل مرديخ، الذي يقع على بعد 55كم في جنوب غرب مدينة حلب بسورية، حيث كانت تقوم في الأزمنة القديمة المدينة القوية والغنية إيبلا. ففي خلال 1974 كشفت الحفريات الأركيولوجية، التي كان يقوم بها منذ 1964 خبراء من جامعة روما، عن مكتبة أو مركز للوثائق في حالة جيدة، بحيث يمكن القول أن هذه أقدم مكتبة تم اكتشافها حتى الآن في الشرق الأوسط. وخلال الأبحاث الأركيولوجية الكثيفة تم اكتشاف بقايا القصر الملكي الكبير الذي كان يحتوي على قسمين خاصين بالكتب، ومن هنا أخرج العلماء 17 ألف لوح طيني مدونة بالحروف المسمارية ولكن في اللغة المحلية، أي في اللغة الأيبلية. وقد كان هذا القصر قد تهدم سنة 2250 ق. م نتيجة للحريق الذي شب فيه خلال هجوم الملك الأكادي نارام سين. ونتيجة لهذا الحريق فقد التهمت النار الرفوف الخشبية التي كانت تحمل الألواح الطينية، مما سبب تساقط هذه الألواح بعضها فوق بعض وهذا اتضح أن هذه الألواح كانت مرتبة الواحد وراء الآخر بحيث كان في الإمكان "تصفحها" كما يتصفح المرء اليوم البطاقات المفهرسة في المكتبات العامة. أما الألواح الكبيرة، التي كانت تتعلق بشؤون الإدارة والدولة، فقد كانت تسند على الجدار في الأرضية.‏

إن التحليل المتأني للمواد المكتشفة يكشف عن تفاصيل مثيرة، وهي تكشف بدورها كيف أن العاملين في تلك المكتبة قد توصلوا إلى حل جيد للوصول بسهولة إلى اللوح المطلوب.‏

فقد كانت كل الألواح مرتبة كانت هذه فرصة نادرة للعلماء الأركيولوجيين لكي يقوموا بأبحاثهم في هذه المكتبة التي بقيت كما تركها الجنود الأكاديون. وهكذا فقد وجد العلماء ما يكفي من العناصر لإعادة تصور القصر الملكي كما كان في الواقع إلى حد كبير. فالغرفة التي عثروا فيها على النصوص الأدبية والتاريخية الخ كانت تصل مساحتها إلى 3.5 × 4 م، وعلى جدران تلك الغرفة بقيت آثار المحامل التي كانت تسند الرفوف الخشبية المخصصة للألواح الطينية الثقيلة. وعلى الأرضية أيضاً كانت توجد وبأبعاد مناسبة شقوق للمحامل العامودية التي كانت تسند الرفوف الأفقية المملوءة بالألواح الثقيلة. وبالاستناد إلى ذلك أصبح في الإمكان معرفة عرض الرفوف (حوالي 80 سم) والارتفاع الذي يفصل كل رف عن الآخر (حوالي 50 سم).‏

ومن هذه الألواح المكتشفة لم يتم الآن إلا قراءة عدد قليل، حوالي ألف فقط. ومن هذه النصوص التي تمت قراءتها يبدو بوضوح أن القسم الأكبر من هذه الألواح يحتوي على نصوص إدارية وسلطوية. وفي هذه الألواح سجلات كثيرة للبضائع التجارية التي كانت تصل إلى إيبلا، وأوامر ملكية مختلفة، واتفاقية تجارية مع المدن والدول المجاورة الخ. ولكن في هذه الألواح نجد أيضاً سجلات مختلفة لحكام إيبلا ورسائل تاريخية وأناشيد وأعمالاً أدبية بالإضافة إلى عدد كبير من المعاجم الإيبلية ـ السومرية والحكايات الميتولوجية والأمثال الخ. ومن هذه النصوص نجد أن بعضها قد حفظ في أكثر من نسخة.‏

لقد كانت المعاجم توضع على رف خاص، بينما كانت النصوص الأدبية توضع على رف آخر خاص بها، وهكذا أيضاً بالنسبة لبقية الموضوعات. ومن هذا يمكن أن نستخلص أن العاملين في إيبلا كانوا كزملائهم في نيبور يضعون الألواح في مجموعات منفصلة حسب الموضوعات.‏

ومن المحتمل جداً أن بقية المكتبات أو مراكز الوثائق في الشرق الأوسط كانت تشبه هذه المكتبة المكتشفة في إيبلا، إلا أن الحظ قد حالف العلماء هذه المرة ليجمعوا عناصر كافة تساعدهم على إعادة تصور كل الأمور الجوهرية لمكتبة من هذا النوع، وعلى التثبت من وجود نظام للتصنيف فيها.‏

4 ـ الكتاب والمكتبات في أوغاريت:‏

فيما يتعلق بتاريخ الكتاب في الشرق الأوسط، وبشكل خاص بالمكتبات، فإن المكتشفات الأركيولوجية في أوغاريت تعتبر ذات أهمية خاصة، وقد تم العثور على بقايا هذه المدينة في رأس شمرا، بالقرب من اللاذقية على الساحل السوري.‏

لقد كانت مدينة أوغاريت تمتد في موقع مناسب جداً حيث كانت تتقاطع الطرق التجارية والمؤثرات الحضارية للعالم في ذلك الوقت. فالتجار والدبلوماسيون والكهنة وغيرهم من أصحاب الغايات من مصر وبلاد الحثيين والبابليين والآشوريين والميكانيين والقبارصة كانوا تجمعاً شرقياً وحضوراً متموجاً وبارزاً في شوارع هذه المدينة. وهكذا لم تكن أوغاريت مكاناً للتجارة فقط بل كان يتم فيها تبادل الرأي والمعرفة كل ما يحصل في البلدان الأخرى، مما كان يخلق فيها شرطاً مثالياً للمركز الديناميكي الخلاق الذي تبرز فيها الأفكار الجديدة والذي يضمن لنفسه التطور المتواصل.‏

لقد وجد العلماء أنفسهم أمام كنز لا يقدر بثمن بعد أن تولت بعثة التنقيب الفرنسية برئاسة ك. شافير C.‏

Shaffer العمل منذ 1929 بشكل واسع ومنظم في رأس شمرا. ومن بين الأشياء التي استخرجت كانت الألواح الطينية الكثيرة التي نقشت عليها الحروف المسمارية للغة مجهولة حتى ذلك الحين ـ اللغة الأوغاريتية، بالإضافة إلى ألواح كثيرة بلغات تلك الشعوب التي كان الأوغاريتيون يقيمون معها صلات تجارية ودبلوماسية. وقد اتضح على الفور أن مضمون تلك الألواح مهم للغاية فيما يتعلق بإعادة ترتيب الحوادث التاريخية في النصف الثاني للألف الثانية قبل الميلاد، أي في الوقت الذي كانت فيها أوغاريت تعايش أعظم ازدهار اقتصادي وثقافي. وبشكل خاص فقد كانت بعض الألواح تتمتع بقيمة كبيرة، وبالتحديد تلك الألواح التي تتضمن نصوصاً أدبية وقانونية ومعرفية ودينية. وبعبارة أخرى فقد كان قد تجمع في أوغاريت جزء كبير مما أبدع خلال آلاف السنين في الشرق الأوسط. وقد كان التجار والأفراد العمليون والأوغاريتيون قد بسطوا الحروف المسمارية إلى حد كبير حتى إن عددها وصل إلى ثلاثين فقط، وبهذا كانوا قد وضعوا واحدة من أقدم الكتابات الصوتية في العالم، أي تلك الأبجدية التي تعود إلى القرن 15 ق. م.‏

وفي وسط من هذا النوع كان لابد بالطبع أن تكون هناك مكاتب للكتابة ومدارس للكتاب ومكتبات أيضاً، وهي التي برزت بسرعة خلال الحفريات. ففي بداية أعمال التنقيب، خلال 1929، تم اكتشاف مكتبة بالإضافة إلى مكتب للكتابة في البناء ذاته.‏

ومن خلال الكتابات الجدرانية اتضح أن ذلك البناء كان مقراً لسكن ومكتب رئيس الكهنة في أوغاريت. وفي مكتبة رئيس الكهنة كان هذا يحتفظ بكتب دينية وثقافية. نظراً للمنصب الرفيع الذي كان يحتله، بالإضافة إلى كتب أدبية ومعاجم وحتى رسالة غير عادية بعنوان "معالجة الحصان المريض".‏

ومع استمرار الحفريات الأركيولوجية تم اكتشاف عدد آخر من المكتبات في هذه المدينة، وبين هذه كانت المكتبات الخاصة هي الأكثر عدداً. ومن المثير فعلاً أنه حتى الآن لم يتم العثور على مكتبة رسمية أو مركز للوثائق، كما هو الأمر مع بقية المراكز الثقافية الكبرى في الشرق الأوسط.‏

فخلال 1956 ـ 1958 تم اكتشاف مكتبة خاصة في بيت أحد الموظفين الملكيين في ذلك الوقت. وفي هذه المكتبة وجدت رسائل كان هذا المسؤول قد تسلمها من حاكم قبرص ومن عدد آخر من الشخصيات الهامة في تلك الفترة. وبالإضافة إلى هذه الوثائق فقد كان هذا المسؤول يحتفظ في مكتبته بمعاجم متعددة، ومن هذه معجم بأربع لغات سومري ـ أكادي ـ حوري ـ أوغاريتي. ومن الواضح أن هذا المعجم كان ضروري له للاتصال مع المحيط المتنوع الذي كان يتعامل معه من خلال مسؤولياته الرسمية.‏

وفي 1959 اكتشفت مكتبة خاصة أخرى في هذه المدينة. وقد كانت هذه المكتبة موزعة على قسمين ووجد العلماء فيها معاجم كثيرة وخصوصاً فلكية وأدبية، ومن بين هذه كان هناك مقطع للحكاية السومرية ـ البابلية الشائعة عن جلجاميش.‏

وخلال أعمال التنقيب الأخرى التي جرت 1962 ظهرت مكتبة خاصة بالقرب من أكروبول المدينة تحتوي على كتابات قانونية ومعرفية كانت هذه المكتبة تخص أحد الموظفين الكبار في الدولة ( نهاية القرن 15 وبداية القرن 16) الذي لم يكتف بتجميع النصوص التي يحتاج ليها في عمله الرسمي وإنما كان كغيره من المثقفين حريصاً على أن يكون لديه في المكتبة مجموعات من المعاجم والأعمال الأدبية الأوغاريتية والسومرية وغيرها. وفي هذه المكتبة نجد مجموعات مثيرة من الألواح الطينية التي كانت لدينا معروفة من خلال المكتبات الأخرى الخاصة في أوغاريت كتلك التي تتضمن تعابير الحكمة، التي تكشف عن الاهتمامات الفكرية للشريحة المثقفة في المجتمع الأوغاريتي. ففي أحد الألواح نقرأ ما يلي: "هل هناك حياة تافهة هي أفضل من الموت؟"، وفي لوح آخر نصاف مثلاً: "من الذي لا يتجاهل الضعف؟" أو "هذا هو قدر الأبرياء!" الخ.‏

وهكذا من المعطيات الكثيرة التي توصل إليها العلماء خلال أعمال التنقيب في هذه المدينة القديمة يمكن لنا أن نستخلص أن الكتاب كان مقدراً جداً في الشرائح العليا للمجتمع الأوغاريتي، حتى أن بعض النصوص الأدبية والمعرفية كانت نصوصاً مقررة للمتعلمين. ومن الواضح هنا أن معرفة الأعمال الأدبية وبقية الأعمال السومرية ـ البابلية كانت في ذلك الوقت جزءاً أساسياً من التعليم الأساسي. وبالاستناد إلى ذلك فمن المؤكد أن أفراد الطبقة الحاكمة من المسؤولين والكهنة والتجار كانوا يزدرون كل فرد يجهل ما يعرفونه، أو كان من لا يحتفظ في مكتبته الخاصة بالكتب المعروفة والشائعة كملحمة جلجاميش مثلاً.‏

لقد تعرضت أوغاريت للغزو والتدمير على يد شعوب البحر، وربما كان من حسن الحظ فعلاً أنه لم يتم تجديدها لاحقاً، فقد وجد علماء الآثار بقية هذه المدينة كما قد تركها الغزاة، ودلت أبحاث أولئك العلماء على أن أوغاريت لها مكان مشرف في تاريخ الكتابة والكتاب والمكتبات.‏

5 ـ المكتبة الرسمية الحثية هو هاتوشاش:‏

كان للحثيين أيضاً في عاصمتهم هاتوشاش Hattushash مكتبات أو مراكز للوثائق غنية ومنظمة بشكل جيد. وكان علماء الآثار قد حددوا ونقبوا عن هذه العاصمة في بوغازكوي Bogzkoy، التي تبعد حوالي 150 كم عن شرق أنقرة الحالية في تركيا. وخلال الحفريات، التي استمرت منذ سنة 1906 وحتى الآن، تم اكتشاف آلاف الألواح الطينية التي تحتوي على كتابات حثية بالحروف المسمارية البابلية، والتي دونت خلال القرنين 14 ـ 13 ق. م. وتتضمن هذه الألواح نصوصاً دبلوماسية وإدارية وسلطوية على الأغلب ، ولكننا نجد فيها أيضاً نصوصاً كثيرة تحتوي على موضوعات تاريخية وعلى حكايات سومرية ـ بابلية، ومن ذلك بطبيعة الحال ملحمة جلجاميش. إلا أن هذه الحكايات لا توجد فقط في أصولها البابلية وإنما في عروضها الحثية أيضاً. وفي الواقع إن وجود النصوص الأدبية والتاريخية كان يدفع إلى الاعتقاد أن ما يضم هذه النصوص لم يكن مجرد مركز للوثائق، بل إن الأمر يتعلق بالمكتبة الرسمية الحثية.‏

وحول هذه المكتبة أصبحنا نعرف الآن بعض المعطيات المثيرة التي توضح إلى أي مدى وصل العاملون في المكتبات بالشرق الأوسط في تنظيم الكتب في المكتبات. فقد استفاد أولئك العاملون من خبرة الآخرين المتراكمة على مر القرون في المكتبات الأخرى للشرق الأوسط وأصبحوا يعرفون في ذلك الوقت كيف يتوصلون إلى اللوح المطلوب وسط آلاف الألواح الأخرى. ففي نهاية الألواح الطينية في هاتوشاش نجد معلومات تتعلق بالعنوان، بل بمضمون النص في أحد الألواح يكتمل في لوح آخر فإن الألواح في هذه الحالة كانت ترقم، وكان النص في كل لوح آخر يبدأ بالجملة الأخيرة الواردة في اللوح السابق. ولمعرفة مكان كل لوح أيضاً قام العاملون في المكتبة بوضع فهرس للمكتبة. وبعبارة أخرى فإن هذه المكتبة، كغيرها من المكتبات الكثيرة خلال ذلك الوقت في الشرق الأوسط، كانت تحظى بكل العناصر الجوهرية التي تميز المكتبة المنظمة عن المكان الذي تتجمع فيه الوثائق المكتوبة دون أي ترتيب.‏

6 ـ مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال:‏

بالاستناد إلى العناصر المذكورة أعلاه فقد تطورت بأبعاد أوسع أهم مكتبة في الشرق الأوسط، تلك التي أسسها بكل عناية الحاكم الآشوري المثقف آشور بانيبال، الذي تولى الحكم خلال 669 ـ 627 ق. م.‏

وقد أدت المصادفة أن تكتشف هذه المكتبة في بداية التنقيبات الأركيولوجية في بلاد ما بين الرافدين النهرين. فخلال 1845 ـ 1851 كان قد اكتشفها حينئذ الدبلوماسي الإنكليزي الشاب ا. هـ. لاريد A. H. Layard في تل كيونجيك بالقرب من الموصل، حيث تم اكتشاف بقايا العاصمة الآشورية نينوى. وفي 1850 اكتشف لايرد البلاط الملكي للملك سنحاريب (705 ـ 681 ق. م.) ووجد فيه ما سماه "غرفة السجلات". وقد تابع عمله بعد ذلك هـ. راسّم H. Rassam خلال 1852 ـ 1854 و1877 ـ 1881، واكتشف بقايا قصر الملك آشور بانيبال ومكتبته التي تحتوي على أكثر من عشرين ألف لوح طيني.‏

لقد أثارت قراءة الألواح، التي انتقلت إلى المتحف البريطاني في لندن، ضجة كبيرة سواء في وسط الخبراء في ذلك الوقت أو في وسط المهتمين بالثقافات القديمة للشرق الأوسط. وهكذا مثلاً تم اكتشاف أن ذلك الحاكم الآشوري الكبير، الذي روت المصادر التاريخية الكثير عن شدته وحملاته الدموية على جيرانه، كان في الوقت ذاته عالماً كبيراً ومحباً للكتب. وفي الواقع كان هذا الملك أول من توصل إلى الفكر بأن يجمع في مكان واحد كل ما أبدعته الأجيال السابقة في الشرق الأوسط في حقل الأدب والمعرفة، وهي المبادرة التي لا مثيل لها في التاريخ.‏

إن الألواح التي اكتشفت في المكتبة تروي بنفسها كيف تم إنجاز هذه المبادرة، فمن خلال هذه الألواح أصبحنا نعرف كيف أن جيشاً كاملاً من الكتَّاب قد كلف بأمر ملكي بأن ينسخ عدة مرات كل نص قديم يتم الحصول عليه. وقد كان الكتاب يسجلون بفخر أصل النص الأصلي وتاريخه: "نص منسوخ من بلاد آشور التي هي مصدر النص الأصلي" أو "حسب أحد الألواح من بابل" الخ. وهكذا تكشف هذه الإشارات وغيرها عن الجهد والتنظيم اللذين تم بهما نسخ النصوص القديمة لمكتبة آشور بانيبال. وبالإضافة إلى هذا تم ببساطة نقل الكثير من الألواح من المدن الأخرى للإمبراطورية الآشورية إلى هذه المكتبة. فمن هذه الألواح نعرف الآن أنه تم نقل مكتبة خاصة بكاملها من كلاح Kalah إلى نينوى.‏

لقد كان الملك آشور بانيبال يشرف بنفسه على إتمام نسخ كل الألواح القيمة التي يُعثر عليها في أرجاء امبراطوريته وتنقل إلى مكتبته. ففي إحدى رسائله إلى أحد المسؤولين في بابل نجده يأمره كما يلي: ابحثوا عن الألواح القيمة التي لا يوجد منها نسخ في بلاد آشور وأرسلوها إليَّ. لقد كتبت الآن إلى رئيس الهيكل ومحافظ المدينة في بورسيبا Borsippa عنك وعليك الآن يا شادان أن تحفظ الألواح في مقرك بحيث لا يتجرأ أحد على أن يسرق منها شيئاً. وحيثما تجد أي لوح أو أي نص شعائري يمكن أن يناسب قصري فخذه وأرسله إلى هناك"‏

ومن أمثال هذه الأوامر التي كان الملك يوجهها إلى العاملين لديه في أرجاء الإمبراطورية نستخلص ببساطة أن الأسلوب الذي كان ينتهجه الملك لجمع الألواح المرغوبة لا يمكن أن يُمدح عليه. ولكن من ذلك علينا أن نكون منصفين له وأن نعترف بأن آشور بانيبال لا يقارن بالكثير من الحكام اللاحقين والزعماء العسكريين الناهبين. وبعبارة أخرى نعرف أن القسم الأكبر من مكتبته قد تجمع بنسخ الألواح القديمة وليس بنهب المكتبات الأخرى.‏

لقد ساهم الكتَّاب ـ الذين كانوا يعملون تحت متابعة المسؤولين المتعلمين في القصر الملكي ـ والمصححون، والعاملون الذين كانوا يشوون بعناية الألواح الطينية، وأولئك الذين كانوا يرتبون الألواح على الرفوف، بالإضافة إلى الكثيرين أيضاً، لقد ساهم كل هؤلاء تحت رعاية الموظفين الملكيين وحسب خطة الملك آشور بانيبال نفسه في إنشاء أكبر مكتبة في الشرق القديم. وفي الواقع لقد كانت هذه المكتبة هي النموذج الأولي للمكتبة، كما هو الحال مع مكتبة الاسكندرية من العصر الهليني، التي ستأخذ أرقى شكل لها.‏

كان المسؤولون عن تنظيم هذه المكتبة يواجهون المشاكل أيضاً، مع أن تلك المشاكل لم تبرز لهم لأول مرة في الشرق الأوسط. فقد حاول الآخرون قبلهم حل تلك المشاكل، إلا أن هموم العاملين في مكتبة آشور بانيبال كانت أكثر لأن هذا المكتبة كانت أكبر مكتبة حتى ذلك الوقت. فالسؤال كان دائماً يدور حول أسلوب ترتيب الألواح الطينية وطريقة تصنيفها لكي يسهل التوصل إلى اللوح المطلوب. وبالاستناد إلى خبرة الذين سبقوهم في حل هذه المشكلات الصعبة كانوا يدركون أنه من الصعب عليهم التوصل إلى اللوح المطلوب إذا لم يكن لهذا اللوح ما يحدد موضعه على رف من الرفوف. ولهذا فقد استفادوا من الخبرة المتراكمة من الأزمنة السابقة وقاموا بترتيب الألواح في مجموعات حسب نظام محدد بالضبط. فقط كان لكل لوح رقم يحدد موضعه في أية مجموعة، بينما كان في وسع المهتمين أن يحددوا بواسطة الفهرس موضع كل لوح.‏

كان لكل لوح ما يشير إلى مضمونه وإلى ناسخه وما شابه ذلك. وفي نهاية كل لوح نص منقوش بواسطة قالب أو خاتم: "لوح رقم... في صف... قصر آشور بانيبال، ملك العالم، ملك بلاد الآشوريين".‏

ويبدو أن كتب هذه المكتبة كانت تخدم دائرة واسعة من المتعلمين، وبالدرجة الأولى أولئك الذين يدخلون القصر الملكي. فوجود المعاجم اللغوية المتعددة وكتب القواعد وما شابه ذلك من الكتب يدل في ذاته على كثرة تداولها، إلا أن ذلك لا يقودنا إلى أن مكتبة آشور بانيبال كانت مكتبة عامة بالمفهوم الشائع في وقتنا هذا. وبعبارة أخرى لم يكن في وسع أي شخص أن يأتي ويستفيد مما هو متوافر في هذه المكتبة.‏

وأخيراً لقد أصبحنا نعرف لقب المنصب المهم لمدير هذه المكتبة: رب جرجيناكي rab girinakki، بينما كانت المكتبة ذاتها تسمى جيركيناكي girinakki وذلك نسبة إلى اسم الخوابي الطينية التي كانت تحفظ فيها بعض الألواح الطينية. وبالإضافة إلى ذلك نعرف أنه في هذا المكتبة كان يطبق نظام تصنيفي وعلى هذا الأساس كانت توزع الألواح في رفوف المكتبة.‏

بعد موت الملك آشور بانيبال جاء دور المكتبة أيضاً. ففي سنة 612 ق. م قام الملك الميدي كيازارس Kyaxares بتدمير نينوى من أساسها. وحتى هذه المدينة لم يتم تجديدها ولذلك فقد تمكن العلماء من اكتشاف بقايا مكتبة آشور بانيبال كما قد تركها الجيش الميدي.‏

7 ـ المكتبات الأخرى في الشرق الأوسط القديم:‏

تعرضنا حتى الآن إلى أهم المكتبات في الشرق الأوسط القديم. وتجدر الإشارة هنا، لكيلا يستخلص القارئ صورة مشوهة عن أهمية الكلمة المكتوبة وتطور المكتبات في تلك المنطقة، إلى أن عدداً كبيراً من الشعوب التي تعاقبت هنا، أو التي عاشت المكتبات في وقت واحد، قد خلفت كتباً ومكتبات كثيرة إلى حد يصعب فيه أن نذكرها فقط في هذا المجال. ومن هنا سنكتفي فقط بذكر البعض منها. ففي مدينة لاغاش Lagash السومرية مثلاً التي نقب فيها أولاً القنصل الفرنسي أرنست دي سرزيه E. Serec خلال 1877 ـ 1900، ثم بقية العلماء بعده، تم اكتشاف أكثر من ألف لوح طيني، وفي مدينة شوروباك Shuruppak اكتشفت عدة مكتبات خاصة، وفي بورسيبا Borsippa عثر على مكتبة كبيرة في هيكل الإله بعل. ومن المصادر التاريخية نعرف أن مدينة بابل الغنية كانت فيها مكتبات كثيرة ومن هذه نذكر على سبيل المثال مكتبة أسرة أغيبي Egibi الغنية، بينما نقلت من هذه المدينة ألواح طينية كثيرة بالكتب ورقائق جلدية إلى مدينة نينوى خلال عهد الملك سرجون الثاني (نهاية القرن الثامن ق. م). وعلى الرغم من ذلك فقد بقيت كثير من الألواح الطينية في بابل واستمرت هذه المدينة غنية بالكتب حتى انهيارها خلال العهد الفارسي. وفي مدينة أوروك Urukالشهيرة كانت هناك المكتبة الشهيرة للملك الآشوري تيجلات بيلسير الثالث Tiglatpileser (القرن الثامن ق. م) التي كانت تحتوي على ترجمات من الأكادية إلى الآرامية والآشورية، وكتب كثيرة للقواعد ومعاجم أيضاً. وفي هذه المكتبة كان يوجد لوح دونت عليه ملحمة جلجاميش ولوح آخر يتضمن حكاية عن الفيضان الكبير الذي يغرق كل العالم، وهو اللوح الذي طلبه الملك آشور بانيبال لكي يُنسخ ويُحفظ في مكتبته في نينوى. وكان هناك الكثير من أمثال هذه المكتبات لأنه من بداية الكتاب حتى العهد الفارسي كانت كل الشعوب في بلاد ما بين النهرين تحظى بثقافة مكتبية غنية. وفي هذه المنطقة كان الحكام الأقوياء والإمبراطوريات والمدن الغنية بين مد وجزر، إلا أن الكتاب كان هو الذي وحد كل هذه في مجموعة كبيرة للشعوب المثقفة. فملحمة جلجاميش وبقية النصوص الأدبية والمعرفة هي ملك لكل الشعوب في تلك المنطقة، بغض النظر عن الدين واللغة والأصل. ولقد كانت الحروف المسمارية أيضاً تربط بين تلك الشعوب، إذ إن غالبية تلك الشعوب كانت تستعمل هذه الحروف بينما بقي البعض يستخدمها حتى القرون الأولى بعد الميلاد! وفي الحقيقة لقد كانت هذه الحروف تتغير وتتطور نحو الأحسن. ومع أن بعض الشعوب اتخذت لنفسها لاحقاً أبجديات خاصة بها، إلا أن البداية بالنسبة إلى الجميع كانت في الحروف المسمارية.‏

8 ـ الطين كمادة للكتابة:‏

كنا قد ذكرنا أن السومريين وبقية الشعوب في الشرق الأوسط قد استخدموا على الأغلب الطين مادة للكتابة. وفي الحقيقة إن الفضل فيما نعرفه عن ثقافات الشعوب في الشرق الأوسط يعود إلى مقاومة الطين للتأثيرات المناخية، وبالتحديد إلى صلابته.‏

كانت تلك الشعوب تأخذ المادة الخام لصنع الألواح من ضفاف دجلة والفرات، وكانت طريقة صنع الألواح بسيطة للغاية. ففي البداية كان الطين يوضع في إناء مع الماء بغرض تصفيته بحيث تسقط الحصى والمواد الثقيلة الأخرى نحو الأسفل بينما يطفو على السطح القش وفتات الخشب وغير ذلك من الشوائب. وفي هذه الحالة كان يلقى ما يطفو على السطح بحيث كان يسهل أخذ الطين بعد فصله عما هبط منه نحو الأسفل. وعلى هذا النحو كان يتم الحصول على الطين النقي الذي كان يستعمل لصناعة الألواح. وكان في الإمكان أيضاً العثور على الطين النقي، الجاهز للاستعمال، على ضفاف دجلة والفرات، حيث كانت تقوم هناك الطبيعة بتصفية الطين عوضاً عن الإنسان كما رأينا سابقاً. فهنا أيضاً كانت تسقط الحصى نحو الأسفل بينما كان ماء النهر يجرف الشوائب في طريقة، ولذلك فقد كان الطين مناسباً للاستعمال ولا يحتاج إلى أي تحضير. أما حجم الألواح الطينية فقد كان مختلفاً، من 5 ـ 6 سم إلى 25 ـ 30 سم من حيث الارتفاع.‏

كان الكتاب ينقشون الإشارات على الطين النقي، ثم كانت توضع هذه الألواح تحت أشعة الشمس إلى أن تجف. أما الألواح التي كانت تتضمن اتفاقيات تجارية هامة ووثائق للدولة وأعمالاً أدبية ومعاجم، أو أي نص مخصص للاستخدام العام، فقد كان يتم شَيُّه لحمايته من التشوه.‏

كانت الألواح الطينية تحفظ في الخوابي الطينية أو كانت ترتب بعد ذلك على الرفوف. وكانت الألواح غير المشوية حين تتصل بالرطوبة، وهي ليست حالة نادرة، تمتص كثيراً من الرطوبة مع مرور الوقت حتى تتحول ثانية إلى طين طري. وقد سبب هذا متاعب كثيرة للعلماء أثناء الحفريات، إلا أنه اليوم لدينا وسائل فعالة جداً لانقاد ألواح من هذا النوع. ولكن في الماضي كان يحدث من حين إلى آخر أن تضيع إلى الأبد بعض الألواح بسبب هذا.‏

9 ـ مكتبات أو مراكز للوثائق؟‏

لقد استعملنا حتى الآن تعبير "المكتبات" حين كنا نتحدث عن مجموعات الألواح الطينية المكتشفة في مدن الشرق الأوسط، وقد آن الأوان هنا لنتوقف عند هذا التعبير لكي نرى إلى أي حد ينطبق على تلك المجموعات من الألواح الطينية. إننا في الوقت الحاضر نقسم النصوص المكتوبة إلى مواد وثائقية (رسائل الحكام والكهنة والتجار، سجلات بيع وشراء البضائع، سجلات أصحاب الديون، عقود بيع الأراضي الخ) وإلى مواد خاصة بالمكتبات إذا كان الأمر يتعلق بنصوص أدبية ومعجمية وبيطرية وقانونية الخ، إلا أن هذا التقسيم يصعب تطيبقه على الألواح الطينية المذكورة. ولكن مع وجود العدد الكبير من الألواح التي تتضمن نصوصاً إدارية وما شابه ذلك فإن تلك المجموعات من الألواح تجد مكانها في مركز الوثائق وليس في المكتبات. إلا أن السومريين أنفسهم وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط لم يهتموا كثيراً بالأمور التي ستحير المؤرخين لعدة آلاف من السنين: هل هذه مواد خاصة بمراكز الوثائق أو بالمكتبات؟ ومن هنا فقد كانت كل الألواح حينئذ توضع في مكان واحد بغض تتضمنها. ولذلك يمكن لنا في أغلب الحالات أن نستعمل تعبير المكتبة كمرادف لمركز الوثائق، أي مكتبة ومركز وئائق معاً. إلا في الحالات الخاصة حين يتعلق الأمر بمركز للوثائق أو بمكتبة فقط.‏

10 ـ الفينيقيون:‏

في تاريخ الكتاب، وبشكل خاص فيما يتعلق بالكتابة، يحتل الفينيقيون فصلاً خاصاً، وهم الذين تربطهم قرابة وثيقة بالأوغاريتين. وقد كان الفينيقيون يسكنون منذ الألف الثالثة الشريط الساحلي الحالي لسورية ولبنان، وأخذوا يمارسون التجارة منذ وقت مبكر جداً حتى أصبحوا مع مرور الزمن أشهر من مارس التجارة واخترق البحار في الأزمنة القديمة. وفي الواقع لقد أملى عليهم موقعهم الإستراتيجي أن يكونوا في مفترق الطرق للحضارات المتقدمة التي كانت تتطور في البلدان المحيطة بهم كمصر وبلاد ما بين النهرين وكريت وآسيا الصغرى. ومن موانئهم المعروفة بيبلوس وصيدا وصور وغيرها كانت تضمن لهؤلاء البحارة الممتازين التجول في البحار وممارسة التجارة الرابحة.‏

ومن هنا لا نستغرب أن يتوصل الفينيقيون بالذات، وهم الذين اشتهروا كشعب عملي، إلى المبادرة في نهاية الألف الثانية قبل الميلاد لوضع نمط جديد من الحروف أسهل وأفضل بكثير من تلك المسمارية والهيروغليفية وغيرها من الحروف التي تطورت في منطقة الهلال الخصيب. وفي الواقع أبدعت هذه المبادرة أبجدية جديدة بحروف مبسطة جداً لكل صوت، وبالتحديد كانت هذه الأبجدية تتضمن 22 رمزاً للتعبير عن الصوامت فقط. وبعبارة أخرى فإن الفينيقيين، كبقية الساميين، لم تكن لديهم رموز خاصة للصوائت، وهي التي أضافها اليونانيون فيما بعد عندما أخذوا لأنفسهم الأبجدية الفينيقية.‏

لقد اشتهر الفينيقيون منذ العصر القديم، وبالتحديد منذ هيرودوت، بكونهم هم الذين أبدعوا الأبجدية بعد أن نشروها في كل البلدان التي على البحر الأبيض المتوسط. ولكن لابد أن نذكر هنا أن الفينيقيين ليسواهم أول من توصل إلى الحروف التي تعبر عن الأصوات، إذ أن هذا النوع من الحروف قد ظهرت قبلهم بثلاثة أو أربعة قرون في الشرق الأوسط وشرق المتوسط. كنا قد أشرنا إلى أن الأوغاريتيين قد استعملوا الحروف التي تعبر عن الأصوات، كما أن هذه الحروف كانت معروفة في سيناء وغيرها. إلا أن هذا لم يؤثر على الشهرة التي لحقت بالفينيقيين في تاريخ الكتابة لأن الفضل يبقى لهم في أنهم هم الذين أبدعوا أبجدية جديدة ومبسطة ثم قاموا بنشر هذه الأبجدية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ويكفي هنا للتدليل على أهمية ذلك أن اليونانيين قد أخذوا هذه الأبجدية عن الفينيقيين ثم انتقلت بواسطتهم إلى بقية الشعوب.‏

لقد لعب الفينيقيون أيضاً دوراً مهماً كتجار لورق البردي. فمنذ القرن 11 ق. م. كان الفينيقيون يشترون ورق البردي من مصر ثم يبيعونه لبقية الشعوب ولليونانيين أيضاً. ولقد كان ورق البردي الذي يشتريه اليونانيون يأتي غالباً عبر بيبلوس Byblos ولذلك فقد أطلق اليونانيون أولاً على ورق الكتاب ثم على الكتاب نفسه اسم بيبلوس Byblos، أي نسبة إلى هذه المدينة الفينيقية.‏

أما عن الكتاب والمكتبات عند الفينيقيين فنحن لا نعرف إلا القليل. ففي وقت متأخر أخذ الكتاب يذكرون كتب التاريخ والكتب المقدسة المحفوظة في المعابد ومراكز الوثائق والمكتبات، ولكنه لم يكتب الاستمرار لشيء من هذا. ولدينا هنا معطيات أكثر حول الكتاب في أهم مستوطنة فينيقية، في قرطاجة التي تقع ضمن تونس حالياً. فقد كان للقرطاجيين مراكز للوثائق ومكتبات جيدة للغاية، ويمكن المرء أن يتعرف على مصير هذه بما خلفه الكتاب الرومانيون. وهكذا نجد أن الكاتب المطلع بلنيوس الكبير قد ذكر في كتابه Naturalis historia (18، 22) أن مجلس الشيوخ الروماني قد قام، بعد أن تولى القائد سكيبون الأفريقي سنة 146 ق. م. الاستيلاء على قرطاجة وتدميرها، بتوزيع الكتب على الحكام الأفريقيين المجاورين الذين لم يعارضوا تقدم الجيش الروماني الفاتح. وقد كان من حظ روما أن يصلها كتاب الكاتب القرطاجي ماغوا Magoa عن الزراعة. وقد ترجم هذا الكتاب أولاً إلى اللاتينية ثم إلى اليونانية، وقد أثر هذا الكتاب بشكل واضح في الأعمال المشابهة التي كتبت لاحقاً في روما.‏

1 ترجمة للفصل الأول من كتاب: Alwksandar Stipcevic, Povijest Knjige, Zagreb 1985‏
  


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 31 - السنة الثامنة - نيسان "أبريل" 1988 - شعبان 1408

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.