الحروب الصليبية

الأحد، 23 يناير 2011

قصيدتي هي " لافتـة " تحمل صوت التمرد........لقاء نادر مع الشاعر أحمد مطر

أجرى الحوار : عبدالرحيم حسن
في الثلاثينات من عمره، متوقـد في غضبه، صـادق في حزنـه، جريء في صوته، ممتلىء بشموخ النخـل العراقي الأصيـل، مطارد من السلطات في كل مكان. ذلك هو الشاعر البصـري أحمـد مطـر.
وبمناسبـة صـدور الجزء الثاني من ديوانـه "لافتــات" وإعادة طبع ديوانه الأول الذي يحمل نفس العنوان، التقتـه "العالـم" وأجرت معـه هـذا الحـوار.


* أحمد مطر صوت صاعد في سماء الشعر العربي. هل لكم أن تعرفوا القراء الكرام بالبدايات والمؤثرات التي أثرت في نشأتكم شاعراً ؟
- معظم ما كتبته في بداياتي صار من الممتلكات الخاصة بالنسيان، بل إن كثيراً من الشعر الذي كتبته بعد ذلك، ضاع مني بصورة أو بأخرى. لكن يمكنني القول بأن قصائدي الأولى لم تخرج عن نطاق الغزل، وذلك أمر طبيعي بالنسبة لصبي أدرك منذ أدرك أن الشعر لا يعني سوى الوجد والهيام والدموع والأرق ،وهو مفهوم شائع بين الناس، تشبعنا به منذ الطفولة. إضافة إلى أن الحب نفسه هو دافع قوي، بأية حال، على توجيه قصائد جميع الشعراء في بداياتهم، باعتباره القضية الأولى التي يكتشفونها في هذا العالم بسهولة

وشغف. على أن نماذج البداية لم تكن جميعها مما يستوقف سامعاً أو قارئاً، نظراً لضحالة المخزون اللغوي والفني، لدى الصبي الذي تنطح لهذا الفن أولاً ولفقر التجربة ثانياً، رغم ما يحمله من عاطفة بكر متوثبة. فالعاطفة وحدها لا تصنع شعراً جيداً . وأنا هنا لا أعتقد أن من التواضع بمكان، أن يقف أحمد مطر، الذي تجاوز الثلاثين لينقد شعر أحمد مطر الذي كان يحبو على الرابعة عشرة، ففي ذلك ظلم كبير كبير، خاصة أن أحمد مطر الصغير كان قد ركب المغامرة بإصرار،واستطاع أن ينجح في أكثر من قصيدة.
أما الحديث عن المؤثرات فهو واسع ومتشعب، وإذا كنت استطيع الإلمام بجوانب من مظاهره - كما أراها - فإن جوانب كثيرة وعميقة ستظل خافية علي، ذلك لأن النصوص أو الأشخاص أو الأشياء بعامة، تترك آثارها الخفية في أعماق المرء، وبالنسبة للمبدع ، فإنها تتبدى من خلال أعماله الإبداعية بأشكال وصور تكاد تكون غريبة على الأصل. وتلك المؤثرات تترافق مع بداياتي ، وأستطيع أن ألم بجوانبها الظاهرة لي كما أسلفت. من ذلك أنني ولدت في قرية التنومة وسط غابات النخيل بشط العرب وقضيت فيها معظم طفولتي. ولك أن تتخيل ما يمكن أن توقعه مثل هذه البيئة من أثر في نفس الإنسان، وما يمكن أن تثيره من عواصف في نفس مؤهلة للشعر: قرية تنضح بساطة، ورقة، وطيبة، وفقراً، مطرزة بالأنهار والجداول وبيوت الطين والقصب، والبساتين، وأشجار النخيل التي لا تكتفي بالإحاطة بالقرية، بل تقتحم بيوتها، وتدلي سعفها الأخضر واليابس ظلالاً ومراوح. كل ذلك بعبارة موجزة: قصيدة فطرية عظيمة، فياضة بالبراءة والمرح والأحزان الشفيفة. في مزيج غريب وليس بغريب، فإذا أضفت إلى هذا الحزن العراقي الأزلي، فإنك ستدهش جداً -ولك الحق- إذا استنطقت حجراً شعراً، فلم ينطق.
في مرحلة الصبا، أدرت ظهري مرغماً لتلك البيئة، لكنني لم أبتعد عنها كثيراً، وهي أيضاً لم تبتعد عني، فقد ظلت أعشاب "بستان صفية" تندلع قائمة في قلبي، وأمواج "نهر الشعيبي" تصطفق مجنونة في روحي، والوحشة العذبة الساكنة في غابات نخيل "كردلان" تبسط ظلها على أحاسيسي. ذلك أثر البيئة الطبيعية، وهو خليق بأن يجعلني أمتطي جواد الرومانسية، وأهيم في براري الأحلام، وهو ما كان فعلاً في البدايات وما تلاها.
وكان يمكن أن أواصل على هذا النهج، لكنني ألقيت بنفسي مبكراً في دائرة النار، عندما تكشفت لي خفايا الصراع بين السلطة والشعب، ولم تطاوعني نفسي على الصمت أولاً، وعلى ارتداء ثياب العرس في المأتم ثانياً. فجذبت عنان جوادي ناحية ميدان الغضب، ومنذ ذلك الحين :
كيسٌ من الجلدِ أنا
فيه عظامٌ ونَكَدْ
فوهتهُ شُدت بحبلٍ من مَسـَدْ
معلقٌ بين السماءِ والثرى
في بلدٍ أغفو
وأصحو في بلـدْ !‍
* تقف قصيدتكم بين الموقف السياسي، المقال الصحفي، أو صوت الشاعر المتمرد. كيف انتهيتم إلى هذه الصياغة الشعرية؟ ولماذا اخترتم شكل اللافتة؟ وهل كان لاشتغالكم في الصحافة دور في ذلك؟
-قصيدتي هي "لافتة" تحمل صوت التمرد، وتحدد موقفها السياسي بغير مواربة، وهي بذلك عمل إنساني يصطبغ بالضجة والثبات على المبدأ، وعليه فإنني لا أهتم بصورة هذه المظاهرة وكيف تبدو بقدر اهتمامي بجدية الأثر الذي تتركه، والنتائج التي تحققها. أما كيف انتهيت إلى هذه الصياغة، فينبغي أن أذكر أنني ابتدأت أولاً بالقصيدة العمودية، من حيث الشكل، ودخلت المعترك السياسي من حيث المضمون، من خلال مشاركتي في الإحتفالات العامة بإلقاء قصائدي من على المنصة ، الأمر الذي يقتضي الإطالة وشحن القصيدة بقوة عالية من التحريض. وتلك الإطالة، كانت تتطلب ، بالطبع، الإنتقال من موضوع إلى آخر،من خلال محور عام واسع هو موقف المواطن مما يعيشه إزاء سلطة لا تتركه ليعيش. إذ ليس من المعقول أن يكتب الشاعر موضوعاً واحداً بتلقائية وعفوية خلال أكثر من مائة بيت.
وهذه الحالة كانت بالنسبة لي عبئاً ثقيلاً، برغم ما تثيره تلك الإطالة من انفعال الناس وحماسهم وتصفيقهم. فعزمت على أخذ نفسي بالشدة ، بحيث لا أتعدى في القصيدة موضوعاً واحداً، وإن جاءت القصيدة كلها في بيت واحد، وذلك لكي أخدمه جيداً من ناحية الصياغة، ولكي أشحنه بكل ما لدي من طاقة فنية ، تجعله سريع الوصول، سريع التأثير، دائم الحضور في الأذهان . وترافق هذا المسعى لدي مع تحولي إلى قصيدة التفعيلة .. لكنني لم أفرط في كنوز القصيدة العمودية، بل حملتها معي، وأعني بذلك القافية واتساق النفس الشعري ، وسلامة الميزان، كما لم أتحلل من انتقاء اللفظة السهلة الدالة، والإبتعاد، ما أمكنني، عن الإلفاظ الصعبة الغريبة، والتعبير الغامض. ولا أعتقد أن هذا كان بسبب اشتغالي في الصحافة، فقد بدأ قبل ذلك، لكن يمكن القول بأن عملي في الصحافة قد أعطى هذه الصياغة ثباتاً واستقراراً، ومهّد لها أرضية صالحة للنمو.
وأعتقد أن هذه المواصفات التي تحملها قصيدتي، هي بصورة ما، نفس مواصفات "اللافتة" التي يحملها المتظاهرون، من حيث الإيجاز والسهولة والموقف المحدد والحاد، والهدف التحريضي. لكنها عندي تتخذ رداءها الفني.
* اللافتة التي تحسنون كتابتها شعرياً .. هل هي نموذج مفرد بنفسه، أم أن لها جذوراً في الشعر العربي؟
- لا أدري على وجه التحقيق، وإن كان بعض النقاد قد ذهب إلى أنها نموذج مفرد. الذي أعرفه أن في الشعر العربي العمودي قديمه وجديده، قصائد جاءت من بيت واحد، أو ثنائيات أو ثلاثيات أو رباعيات .. إلى غير ذلك. لكن قصائد البيت الواحد أو ما يسمى بالبيت اليتيم، هي قصائد قليلة، ولم تكن مبنية على أساس تصميم مسبق، بل أن شاعراً ما ، يبتدىء قصيدة فلا يطاوعه النظم بعد مطلعها، أو يرى أنه قد أفرغ كل ما لديه في ذلك البيت، بحيث لا يستطيع أن يضيف إليه شيئاً، فيتركه وحيداً. أما الرباعيات وما شاكلها، فهي تبنى على أساس هندسي واحد، يكون عرضة لزوائد الحشو، وربما جاء أكثر من رباعية للتعبير عن موضوع واحد متصل.
وبالنسبة لشعر التفعيلة، فإن الإختزال أمر وارد لدى كثير من الشعراء، لكنه ، غالباً، لا يختص بقصيدة تبدو قصيرة جداً ومتكاملة، بل بمقاطع قصيدة طويلة. وهذا ما أفعله أنا أيضاً في بعض الأحيان، لكنني أترك مجالاً لجعل كل مقطع قصيدة قائمة بذاتها. وبعبارة أخرى، تشبه قصيدتي ذات المقاطع ديواناً صغيراً. كما أنني في جميع قصائدي أمارس الإختزال، مما يجعل هذا صفة شبه ثابتة، لا عملاً يجيء بالصدفة، فلدي قصائد كثيرة لا تستغرق الواحدة منها أكثر من تسع أو عشر كلمات.
* من الملاحظ أن الصورة لديكم مكثفة وتهكمية وشديدة الإتصال بالكاريكاتير. ما هي دوافع تركيزكم على هذه الصياغة ؟
- سبق أن تحدثت عن التكثيف أو الإختزال في قصيدتي، وقدمت مسوغاته. أما عن كونها تتسم أيضاً بالتهكمية والقرب من أسلوب الرسم الكاريكاتيري، فأقول أنني بطبيعتي ساخر، والذين يعرفونني يعرفون أن السخرية من طبيعتي حتى في المواقف الدامية. لا أدري لماذا ؟ هل السخرية نوع من الدفاع عن النفس ؟ ربما يستطيع المختصون بعلم النفس أن يحللوا هذا الأمر أفضل مما أستطيع، لكنني من خلال مطالعاتي ومعايشتي لشرائح من المجتمع، وجدت أن من يحسنون السخرية والإضحاك هم أكثر الناس امتلاء بالأحزان. أنا بالطبع لا أرمي إلى إضحاك الناس، بل أكتب على سجيتي من خلال مخزون كلي، فأستعرض شر بليتنا، وشر البلية ما يضحك أحياناً، لكنه ضحك مر، لأن النكتة مرة سوداء، فهو ضحك من شدة البكاء.
ولعل هذه الصفة قد عبرت إلى شعري بطريق موهبة أخرى، هي الرسم الكاريكاتيري، الذي مارسته منذ سنين في الصحافة.صحيح أنني تركته، لكنه كما يبدو أقوى من أن يتلاشى، فهو يختبىء في أعماقي، وكلما انفتح باب الشعر، مد رأسه إلى الخارج ليثبت وجوده.
لماذا لم تسألني عن أثر القصة القصيرة في قصيدتي؟ ألا ترى شروطها قائمة في معظم قصائدي من بداية ووسط ونهاية ؟ ذلك أيضاً صدى تجربتي في كتابة القصة منذ سنين، والتي سرحتها بإحسان، لكنها بقيت مستقرة في نفسي.
* سبق أن أصدرتم ديواناً بعنوان "لافتات" ولكن الملاحظ أنكم مازلتم تكتبون المزيد من اللافتات. هل ستستمر في هذا الشكل؟ وهل في النية إصدار ديوان جديد؟
- نعم سأستمر .. لأن المظاهرة لم تزل مستمرة. وعندما تستطيع هذه المظاهرة أن تسهم في إسقاط الطواغيت، فإنني سأعود إلى البيت لأستريح .. وأهنأ بالأمان والطمأنينة. وفي ظل الأمان والحياة الكريمة، ستتغير أشياء كثيرة منها طبيعة شعري، فقد أتفرغ لأغني على "ليلاي" وأفيض بوجدانياتي الثرة المخبوءة. وقد يخرج طاغوت جديد من تحت الأنقاض، فأعود مجدداً لأخرج في مظاهرة لإسقاطه. من يدري ؟!
أما الديوان الجديد .. فقد صدر منذ أيام، كما صدرت الطبعة الثانية من الديوان الأول. الديوان الجديد "لافتات2" أكبرحجماً من الأول ويضم قصائد أكثر، كما أنه أكثر حدة من الأول، ولا أعتقد أن بلداً عربياً سيسمح بدخوله أو تداوله، مثلما حصل للديوان الأول وأشدّ. في الديوان الأول دعوت القارىء إلى أن يسميه "حتفي" .. أما الديوان الثاني فيمكنه أن يسميه "وصيتي" !
* قيل أن أعذب الشعر أكذبه. ما هو رأيكم بهذه المقولة؟ وما هي وظيفة الشعر في رأيكم؟
- الناقد الذي قال قديماً إن " أعذب الشعر أكذبه " لم يكن يقصد بالطبع جانبه الأخلاقي أو الوطني أو المبدئي إطلاقاً، إنما قصد الجانب الفني الجمالي في الشعر، وهو بهذا لم يخطىء ، فكثير من موارد البلاغة هو كذب جميل، لكنه كذب وظيفته إيصال الحقائق بصور مدهشة وعذبة، لأن الحقائق مهما سمت، لا تصنع شعراً. أما إذا غدت تلك العبارة النقدية ذات النية الحسنة، عباءة فضفاضة يتلفع بها كل مدلس ومنافق ومتملق ومرتزق، فينبغي أن نصرخ ملء أفواهنا أن " أعذب الشعر أصدقه " لأن وصف حاكم ظالم بأنه عادل، أو وصف حكومة جائرة بأنها منصفة، وفق كل أساليب البلاغة الجميلة، هو أمر لاصلة له بالعذوبة لكنه ذو صلة بالعذاب. وذلك ما يحملنا على احتقار جماليات مثل تلك القصائد بسبب قباحات مواضيعها. فكما أن الصدق وحده بغير جمال ، لا يكفي لصناعة شعر جيد، كذلك لا يكفي الجمال وحده دون صدق، لصناعة شعر جيد. وربما يكون انحيازنا للصدق القبيح مسوغاً أكثر من انحيازنا للجمال الكاذب.
بعبارة موجزة: قد تكون المرأة جميلة جداً وعفيفة جداً، وقد تكون غير ذات جمال لكنها عفيفة ، وقد تكون جميلة عاهرة.
أنا مع الأولى والثانية .. لكنني، باية حال، لست مع الأخيرة.
* ما رأيكم بعلاقة الشاعر بالسلطة؟ وما رأيكم بالشعراء العرب المعاصرين؟
- الشاعر الذي لا يدرك أنه سلطة فوق كل سلطة، ولا يحيا أو يعمل وفق هذا الإدراك، عليه أن يتجه للإشتغال بأي مجال إلا الشعر. الشاعر ضمير الأمة والبوصلة الدقيقة الحساسة التي تشير إلى حقيقة الإتجاهات، مهما اختلفت الفصول وتغيرت الأنواء، ولا قانون يحكمه أصلاً إلا ما يحكم حركة مؤشر البوصلة من قوانين.
وإذا وقع الخلاف بين الشاعر والسلطة، على هذا الأساس، فإن السلطة هي الخطأ، وإن الشاعر هو الحق. فلا يمكن أن توضع الأمة في كفة ميزان، والسلطة في كفته الأخرى، وتتوازن الكفتان. الأمة هي الأثقل دائماً، والشاعر هو الأمة. ومن نافلة القول أن أشير إلى أن الأمم تبقى دائماً، وإن السلطات تزول أو تتبدل. ويبدو لي أن معظم الشعراء العرب، قديماً وحديثاً، لم يدرك حقيقة موضعه، وإذا أدركها فإنه يجبن عن إعلانها أو ممارستها. والأغلبية من شعراء العرب المعاصرين، هي للأسف، تبالغ في الإنحناء للسلطة ، خوفاً أو تطوعاً. أما الأقلية، التي تكاد تعد على أصابع اليدين، فهي التي ترى أن على الحاكم أن ينحني لها إذا وقف أمامها أو مر بها. وأنا واحد من هذه الأقلية ‍!
* برز شعراء ينتمون إلى المقاومة أو محسوبون عليها، ولكننا لاحظنا أن تجاوب الجمهور معهم كان محدوداً جداً، فكيف تفسرون ذلك؟ وهل أن القصيدة الملتزمة سياسياً تفقد جمهوراً كل يوم، أم تكسب هذا الجمهور ؟
- الشاعر الذي ينتمي إلى حركة المقاومة في إطارها الوطني المطلق، لا يمكن إلا أن يكون صوتاً صادقاُ ومؤثراً. ومهما كان منطلقه الفكري، لا يمكن إلا أن يتجاوب الجمهور معه.
أما إذا كنت تعني مجموعة أسماء صنعتها أحزاب أو دكاكين ثورية مقفلة، وجعلتها موظفة بساعات دوام معلومة، للوقوف في واجهات تلك الدكاكين الضيقة، كموديلات تعرض آخر صيحات أزياء الحزب أو الجماعة الثورية (القبيلة العصرية بتعبير أدق) فأنت محق في ملاحظتك، وتفسيري لذلك هو عين تفسيري لعلاقة الشاعر بالسلطة. فالشاعر ليس ناطقاً بلسان حال القبيلة. الشاعر ناطق بلسان حال أمته كلها، والإنسانية بأسرها. الشاعر ليس شرطياً لدى دولة ما. لكنه سحابة تروي العطاشى من كل لون وجنس ومذهب، وهو شمس تسطع على الدنيا كلها، سماء وبحراً وأرضاً. والقصيدة الملتزمة سياسياً وفق هذا المفهوم، تجد جمهورها دائماً .. الجمهور العام لا الخاص.
وقلة تجاوب الجمهور مع من تسميهم شعراء مقاومة، سببه أن هؤلاء الشعراء هم صناعة إعلامية تقوم بها "القبائل العصرية" أكثر من كونهم صناعة موهبة.
لذلك فأنت ترى أن هؤلاء مشهورون، لأن وسائل الإعلام كلها بيد القبائل. لكنهم يفضحون حقيقة هذه اللعبة، كلما التقوا بالجمهور. فوسائل الإعلام من شأنها أن تطلق شهرة امرىء ما، لكنها لا تستطيع، بكل ما أوتيت من قوة، أن تفرض على الجمهور أن يحبه أو يعجب به أو يتفاعل مع ما يقوله.
وعلى هذا الأساس، تجد عدداً كبيراً من الشعراء السياسيين يعبرون إلى أذهان الناس بالطرق السرية، ويعيشون محبوبين بين الناس، في الوقت الذي تعلن وسائل الإعلام وفاتهم قبل مولدهم. كما تجد عدداً آخر من الشعراء يفترشون أنظار وأسماع الناس ليل نهار بواسطة وسائل الإعلام، لكنهم يظلون يراوحون في مواقعهم، فليس من السهل إطلاقاً أن يدخلوا إلى القلوب.
* نلاحظ أن الوسط الثقافي حصر على أسماء معينة. فكيف تم لكم اختراق حالة الهيمنة التي تفرضها بعض الأسماء في الشعر وغيره؟ وهل تعانون من هذه الظاهرة؟
- وهذا السؤال أيضاً مرتبط عضوياً بالسؤال السابق. فإن ما يحكم الوسط الثقافي اليوم هو صورة أخرى مما يحكم أنظمة الحكم أو الأحزاب، مرة بشكل مباشر مرتبط بنظام الحكم القادر على بذل الأموال الطائلة على الدعاية والإعلان لمن يعمل عبداً متأنقاً لديه، أو يعمل "برغياً" في آلته. ومرة بشكل غير مباشر، وذلك على هيئة "مافيا" إعلامية تضم أفراداً متفرقين موزعين على مختلف البلدان وعلى مختلف الوسائل، ولكنهم موحدون في نطاق قوانين "العصابة" بدوافع اتفاق فكري أو حزبي أو تجاري.
وعندي أن خطر هؤلاء أشد من خطر الأنظمة، لأن الأنظمة تقتل بوضوح وضجة كالطاعون، بينما هؤلاء يقتلون بشكل سري وصامت .. كالإيدز.
لكن هناك عناصر شريفة -تشكل أقلية- لا تزال تحفر هذا الجدار بالإبر، وتكتب بدافع من ضمائرها المجردة من الحَوَل النقدي أو الإنحياز أو المحاباة. وفي ذلك بعض العزاء. ولا أعتقد أنني اخترقت حالة الهيمنة هذه، بل إنني بنيت لي كوخاً مجاوراً لقصرها. وهي مازالت تبالغ في بهرج القصر وزينته وصقل زجاجه وتلوين أضوائه .. أما أنا فلا أزال أقف على باب الكوخ أقدم الماء والطعام والدفء والقوة للسابلة. لا أرى أنني أعاني كثيراُ من هذه الظاهرة بل أجزم أنها هي التي تعاني مني. فماذا تعني سعة القصر وأضواؤه وألوانه، مادام الناس لا يرتوون ولا يطعمون ولا يستدفئون إلا في كوخي ؟!
* كيف تقيمون الواقع السياسي العربي والإسلامي والعالمي؟
- الواقع السياسي العربي .. ملعب أمريكي يلعب فيه اثنان وعشرون لاعباً، فريق منهم في الجهة الشرقية وفريق في الجهة الغربية. يختلفون ويتناحرون على متابعة الكرة، لكنهم جميعاً يتفقون على قاعدة لعب واحدة.والأهداف التي يسعون إلى تحقيقها، في هذا المرمى أو ذاك هي كلها في النتيجة لا تخرج عن نطاق الملعب.
أما الواقع السياسي الإسلامي فهو محكمة تضع القرآن في قفص الإتهام وتطلب منه أن يقسم على القرآن أن يقول الحق ولا شيء غير الحق!
أما الواقع السياسي العالمي فهو مسرح يعرض نصاً مؤلفته ومخرجته وممثلته .. أمريكا.
والجمهور في المواقع الثلاثة مربوط إلى الكراسي بالقوة .. ممنوع عليه التدخين أو المشاركة أو الإحتجاج.ومسموح له فقط بأن يصفق أو يطبل أو يقول "يحيا العدل" !
* ما هي نصائحك إلى : القراء؟ السلطات العربية والإسلامية؟ الشعراء العرب؟ الإعلاميين في المنطقة؟
- للقراء أٌقول : لاتكونوا عبيداً وقد خلقكم الله أحراراً. وإذا لم تسهم الكلمة التي تقرأونها في إنماء وعيكم واستثارة غضبكم لتغيير هذا الواقع السياسي الشاذ بأيديكم أو ألسنتكم - وذلك أضعف الإيمان - فلا تقرأوا .
وللشعراء العرب أقول ما قاله الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري :
إن الملوك بلاءٌ حيثما حلّوا ... فلا يكن لك في أكنافهـم ظلُّ
ماذا تؤملُ من قومٍ إذا غضبوا ... جاروا عليك، وإن أرضيتهم ملّوا
فاستغنِ باللهِ عن أبوابهم أبداً ... إن الوقوف على أبوابهم ذلُّ
وللإعلاميين أقول : إحذروا أن تعبثوا بالحقائق، واحذروا بلع أطراف الحروف، فالكلمة حساسة جداً، يمكن تحويلها بلمسة بسيطة غير مسؤولة، من أداة إحياء إلى أداة قتل. إن عبثاً هيناً بكلمة "إعلام" يحولها ببساطة إلى "إعدام".
إحذروا أن تطعموا أطفالكم من أجور كلمة تقتل ملايين الأطفال!
وللسلطات العربية والإسلامية لا أدري ماذا أقول ! قصائدي هي نصائح لها لو كانت تدرك النصيحة. لكنها تكافئني عليها بالنفي والمطاردة.
إنها لم تستمع إلى نصيحة الله. فهل تستمع إلى نصيحتي ؟!
مجلـة(العالم)- لنـدن ، العـدد 185 - 29-8-1987

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.