الحروب الصليبية

الأحد، 9 يناير 2011

المَخطُوطَاتُ العَربيَّة - د.عَبد النّبي اصطيف

  
الحديث عن المخطوطات العربية حديث ذو شجون. وليس على المرء أن يبحث طويلاً عن مباعث هذه الشجون لأنها كثيرة، متعددة الوجوه ومتباينة الصور. ولكنها في مجموعها تشير إلى أمر واحد، وهو الحظ العاثر الذي قدر لهذه المخطوطات أن تقع فيه.‏

قد يشير المرء بالطبع إلى ما فعله هولاكو يوم دخل بغداد، عندما شاء حبه للون الأسود أن يشمل حتى نهر دجلة، فألقى بمحتويات مكتبات حاضرة الخلافة العباسية في مياهه، ولكن هذا ليس بيت القصيد، وليس ثمة من جدوى من البكاء على أطلال هذه المكتبات لأن في الحياة العربية المعاصرة ما يهون من بشاعة حدث كهذا.‏

*** ‏

لنتفق في البداية على أن الكثير من المخطوطات قد تسرب بشتى السبل إلى خارج الوطن العربي خلال فترة الاحتلال العثماني التي امتدت أربعة قرون، وأن هذه المخطوطات توزعت في مختلف بقاع الأرض بقاراتها الخمس. وحسب المرء أن يقلب فهارس مكتبات العالم الكبرى (في لندن، أكسفورد، باريس، برلين وغيرها)... ليقدر مدى حجم هذه المخطوطات وعظيم أهميتها بالنسبة إلى فهم تاريخ الحضارة العربية.‏

ولعل مما يخفف من وقع هذا، أن أغلب هذه المكتبات قد عمد إلى فهرسة هذه المخطوطات فهرسة جيدة، ومن ثم نشر هذه الفهارس في مجلدات بمختلف اللغات يمكن للقارئ أن يفيد منها وأن يراجعها إن دعته الحاجة إلى ذلك. ولكن ثمة الكثير الكثير من المخطوطات التي لم تتيسر فهرستها والتي ما زالت مكدسة في صناديق تنتظر الكشف عنها، وفهرستها وإتاحة الاطلاع عليها للباحثين.‏

وهناك إضافة إلى مجموعات هذه المكتبات العامة المفهرسة والمجموعات التي تنتظر طريقها إلى الفهرسة، مجموعات أخرى لا تحصى من المخطوطات الخاصة والتي يمتلكها أفراد عرب وأجانب إما لا يعلمون بقيمتها ولا يهتمون بها، أو هم يعلمون هذا ويفيدون منه فتتحول هذه المخطوطات إلى سلع نفيسة تباع بالمزاد العلني لتنتشر من جديد ضمن أثاث وممتلكات أشخاص آخرين، وبالتالي يطول انتظار المعنيين بها، حتى يروها متاحة لهم أو منشورة محققة.‏

قد يظن القارئ أن صاحب هذه السطور يبالغ في تقدير حجم هذه المخطوطات وعددها وأهميتها، ولذلك فليسمح لي أن أقدم مثالاً واحداً يعطي فكرة ما عن هذه الأمور.‏

في صيف عام 1978 حمل إلي صديق إنكليزي من معهد الدراسات الشرقية بجامعة أكسفورد فهرساً وصله من قبل الناشر الهولندي بريل في ليدن، يعرضه علي. أذكر أنه قال لي عندها: لعلك تجد سبيلاً عند من تعرف من المهتمين بهذه النفائس في الوطن العربي لشرائها وإيداعها في مكتبة عامة قبل أن تتفرق وتضيع. ونظرت في المجلد وتبينت أنه فهرس لمجموعة من المخطوطات العربية هي في حوزة الناشر بريل.‏

والحقيقة أن ما روَّعني في مراجعة هذا الفهرس هو الأرقام التي تضمنها هو:‏

1 ـ الفهرس رقم خمسمائة في قائمة فهارس مجموعة بريل الخاصة للمخطوطات والتي نشر أولها عام 1868 بتحرير الكونت كارلو لاندبرغ Count Carlo Landberg.‏

2 ـ وهو يتضمن ما يقرب من مائتين وسبعين مخطوطة في المعرفة والبحث والفنون العسكرية والنحو والمعاجم والبلاغة والتاريخ والجغرافية والأدعية والحديث والتصوف والقرآن وعلومه، والشعر الديني، والفقه الحنفي ومدارس الفقه الأخرى وعلوم الحيوان والفلك والموسيقا والكلام، والأدب والفلسفة وغير ذلك.‏

3 ـ وتبلغ القيمة الإجمالية لهذه المخطوطات ما يقرب من ستين ألفاً من الجنيهات (حوالي 325 ألف غيلدر).‏

4 ـ وثمة ملاحظة مرفقة بالفهرس تشير إلى أن آخر موعد لتلقي الطلبات هو شهر آب 1978 وهو موعد انتهاء بيع المجموعة ككل.‏

ولاشك أن المرء سيسائل نفسه بعد النظر في هذه المعطيات، كم يبلغ عدد المخطوطات التي تضمها مجموعة بريل (يشير للمدير الإداري للدار إلى أنه قد أعلن في الفهارس الخمسمائة السابقة عن مئات الآلاف من العناوين ـ ص5)، ومن أين تم الحصول عليها، وكيف، ومتى، وما الذي ستسوقه الأقدار لها، ومن سيشتريها ـ أو اشتراها بالفعل بعد مضي هذه السنوات ـ ومن هي الأيدي التي ستتولى حفظها وتحقيقها وإخراجها للباحثين ومتى سيكون ذلك. وكيف يغدو كل ذلك ممكناً بعد أن تتفرق إثر انتهاء هذه المزادات العلنية؟... (يشير مُعدا الفهرس الدكتوران ب، س، فان كوننغزفلد، وق، السامرائي إلى أنهما يأملان أن تصبح هذه المجموعة في حوزة مؤسسة عامة تضعها في خدمة الباحثين دون تردد أو صعوبات ص 7).‏

وإذا ما شاء المرء أن يتجاوز السؤال عن مجموعة بريل (أو مجموعاته) إلى غيرها، فإنه ربما يسأل كم هو عدد أمثال بريل من العرب والأجانب في العالم. وكم هو عدد هؤلاء الذين ينصرفون إلى الاهتمام بهذه المخطوطات بدوافع مختلفة (علمية وفنية وتجارية...)، فيكلفون أنفسهم أو غيرهم مأجورين عناء فهرستها والإعلان عنها ثم بيعها. وكم هو عدد هؤلاء الذين يؤثرون أنفسهم بمخطوطاتهم فلا يطلعون عليها أحداً، وكم هو عدد أولئك الذين لا يعرفون قيمة ما تحتويه مجموعاتهم فيتركون الأرضة تعيث فيها فساداً، وأخيراً كم هو عدد المخطوطات المدفونة تحت الأرض في صناديق أو في غيرها والتي ربما لن يعرف بوجودها قبل التنقيب والكشف عن كثير من المناطق الأثرية المدمرة نتيجة ما حاق بالمنطقة العربية من خراب ودمار منذ الهجمات التركمانية والصليبية حتى العصر الحاضر!!!...‏

قد يقول البعض ممن يسرّهم التشفي أنها لن تكون أسعد حظاً من تلك المخطوطات التي ظهرت في طبعات يقال إنها محققة ولكنها منسوخة ممسوخة ومشوهة.‏

ومع أن هذا حق في كثير من الأمثلة، إلا أنه لا يسوغ على الإطلاق ولا يهوّن في شيء من حجم الخسارة التي تلحق بالباحثين العرب والأجانب من المهتمين بالحضارة العربية وتاريخها.‏

وقد يقول آخرون: "أية خسارة هذه التي تشير إليها، ونحن نعيش في الثمانينات من القرن العشرين، أما آن لنا أن ننتمي حقاً وصدقاً إلى هذا العصر؟".. "ألسنا بحاجة إلى تجاوز المراحل السابقة من تاريخنا الثقافي واللحاق بغيرنا من الدول والأمم التي باتت تخطط الآن للقرن الحادي والعشرين؟".‏

والحقيقة أن مسألة الانتماء إلى عصرنا الحاضر هي بيت القصيد وغاية الغايات، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا في هذا السياق، هو: هل ننتمي إلى هذا العصر كعرب واثقين من هويتهم الثقافية ومن مواقع أقدامهم في هذه المسيرة الحضارية، أم ننتمي إليه ككواكب تدور تابعة للثقافات الأجنبية المختلفة؟..‏

لا أظن أن ثمة من يماري في أننا ينبغي أن نحفظ هويتنا الثقافية، وأن ننتمي إلى عصرنا الحاضر في الوقت نفسه. وإذا كان الانتماء إلى هذا العصر يقتضي منا الانفتاح على ما يجري فيه في مختلف المجالات واستيعابه والإفادة منه على النحو الصحيح، فإن الحفاظ على هويتنا الثقافية يقتضي منا أيضاً الانفتاح على ثقافتنا في مختلف عصورها ووجوهها وجوانبها واستيعاب كل ذلك والإفادة منه على النحو الصحيح أيضاً. ومن خلال عملية التفاعل بين هاتين العمليتين: الانفتاح على أعماقنا الثقافية من جانب، والانفتاح على معطيات الثقافة المعاصرة من جانب آخر نستطيع أن نحفظ وجودنا الثقافي كعرب وأن نضمن استمرارية هذا الوجود وتتابعه حتى نسهم فيما بعد في إغناء الثقافة العالمية المعاصرة على النحو الذي أغنى به أجدادنا ثقافتهم العالمية المعاصرة، وبالتالي نستطيع أن نزعم لأنفسنا أننا قد انتمينا حقاً لهذا العصر.‏

ولكن كيف السبيل إلى انفتاحنا على ثقافتنا الممتدة على عدة قرون انفتاحاً يكون ذا جدوى؟...‏

من الطبيعي أننا عندما نتحدث عن ثقافة ممتدة على قرون عديدة، فإنما نعني في الواقع الصورة التي كوّناها في أذهاننا عن هذه الثقافة. وهي صورة أملتها المواد والمعطيات التي توفرت لنا عن هذه الثقافة. ولاشك أن طبيعة هذه المواد وحجمها وشموليتها واستمراريتها، وغير ذلك من أمور تحدد طبيعة هذه الصورة وتضاريسها الكبرى، وأن أي تغير يطرأ على أوضاعها سوف يؤدي إلى تغير في الصورة التي نعرفها عن هذه الثقافة. وبالتالي فإن استقصاء مصادر الثقافة العربية هو الخطوة الأولى في الطريق نحو تكوين صورة حقيقية عن هذه الثقافة: صورة مستمرة متتابعة ونامية وليست الصورة التي نعرفها الآن والقائمة في الواقع على مصادر محدودة جداً إذا ما قيست بما يمكن أن يتوفر من هذه المصادر لو كان لها أن تلقى الاهتمام الجديرة به.‏

ولاشك أن المخطوطات العربية هي أثمن هذه المصادر وأهمها في استكمال صورتنا عن ثقافتنا التي نود من خلالها أن نثبت وجودنا الثقافي كعرب في القرن العشرين وفي القرن الذي يليه. ومن هنا كانت أهمية حصرها وفهرستها وتحقيقها وإخراجها من بحر الظلمات الذي قدَّر لها أن تغرق فيه. (ربما كان من المفارقة حقاً أن يشير المرء إلى أن جهود المستشرقين في هذا الميدان، ميدان جمع المخطوطات وفهرستها وتحقيقها يفوق كماً ونوعاً جهود الباحثين العرب، ولكن العرب ما زالوا عالة ـ حتى في دراستهم لثقافتهم ـ على الغرب في جميع الميادين يستوي في ذلك الكتاب والطائرة).‏

إن المتمعن في الكثير من الدراسات التي تتناول الحضارة العربية بمختلف جوانبها، وخاصة في عصور الدول المتتابعة أو ما يسمى بفترة الانحطاط، أو ما يليها مما يسمى بعصر النهضة ليشعر بالأسى العميق لما يطلق من أحكام عامة متسرعة في حق هذه العصور وفي حق غيرها. وليس ثمة من حاجة في هذا الموضع أن يشير المرء إلى أن المسؤول الأكبر عن إطلاق هذه الأحكام هو أن الكثرة الكاثرة من آثار هذه الفترات ما زالت ضائعة لا يُعرف مكانها؛ أو متوضعة ضمن صناديق في مجموعات خاصة أو عامة ما تزال تنتظر طريقها إلى الرفوف؛ أو مفهرسة متفرقة في مكتبات العالم؛ أو محققة تحقيقاً رديئاً لا يغني البحث ولا الباحثين.‏

إن الخطوة الأولى في الطريق نحو تقويم أفضل للحضارة العربية ينبغي أن تكون جمع هذا التراث العربي المتفرق والكشف عنه ثم فهرسته ونشره وتيسيره للدارسين من العرب والأجانب. وبالطبع فإن أمراً كهذا لا يمكن أن يتحقق في يوم وليلة، ولا تكفي فيه الجهود الفردية أو المحدودة، بل لابد له من وقت طويل ومن جهود مشتركة ومنسقة ومستمرة ومخلصة يمكن أن تؤتي أكلها بعد حين.‏

قد أكون متفائلاً أكثر من اللازم، وقد ترسم كلمتي هذه ابتسامات متفاوتة على شفاه الكثيرين، ولذلك فإنني لن أستغرب إذا ما أشارت هذه المخطوطات إلى صورة تجسد وضعها وترسمه بدقة، صورة طالما ترددت على مسامع دارسي البلاغة العربية هي:‏

إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه‏

ثم قالوا لحفاةٍ يوم ريح اجمعوه‏

جامعة دمشق‏
  


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 20 - السنة الخامسة - تموز "يوليو" 1985 - ذو القعدة 1405

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.