الحروب الصليبية

الأحد، 13 مارس 2011

إيديولوجيا "الفوضى الخلاقة"


في سنة 1942، أصدر عالم الاقتصاد النمساوي جوزيف شامبيتر (1883-1950) كتابه الشهير عن "الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية" مضمنا إياه تصوره لآليات اشتغال النظام الرأسمالي وشارحا من بين ظهرانيه لمآلها على ضوء الأطروحة الاشتراكية السائدة وطبيعة الديموقراطية التي من الوارد أن تترتب عن هذه كما عن تلك شكلا وعلى مستوى السيرورة.

وعلى الرغم من تضارب الرؤى حول جهة تصنيف الكتاب (علم اقتصاد أم علم اجتماع أم علم سياسة أم فلسفة أم كل ذلك في الآن ذاته) وتعذر تصنيف صاحبه بهذه الجهة أو تلك (ليبيرالي أم ماركسي أم بعضا  منهما معا)، فإن شهرة الكتاب وصاحبه إنما تأتت لهما من أطروحة مركزية (أطروحة "التدمير الخلاق") تبدو لنا أنها تعدت، بعد أكثر من ستة عقود، ما كان يرومه الكتاب أو يضمره صاحبه.
يقول شامبيتر متحدثا عن الرأسمالية: " ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد، بل إن إزاحته التامة هي التي تقوم بذلك... والذي يتمترس وراء الإزاحة إياها إنما هو المقاول المبدع الذي يثوي خلف السلعة الجديدة والمزج الإنتاجي الجديد والسوق الجديد ومصادر الطاقة الجديدة...هو نظام تقدمي بالتأكيد حتى وإن بدا ظاهريا غير مرغوب فيه". 
ويتابع موضحا: "إن المنافسة الهدامة...هي أيضا تدمير هدام يساهم في خلق ثورة داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة".
وإذا كنا نعدم الحجة القاطعة للتدليل على أن ما "ابتدعته" الإدارة الأمريكية (في إطار ما أضحى يسمى منذ مدة ب"الفوضى البناءة" أو "الخلاقة") إنما هو استحداث لأطروحة شمبيتر (وهو ملهم معظم مقاوليها بكل الأحوال)، فإننا لا نستبعد ذلك إطلاقا من لدن مراكز الدراسات الاستراتيجية التي أعادت استنبات الأطروحة (أطروحة شامبيتر) وطوعتها لتغدو عقيدة يسترشد بها في علاقة الولايات المتحدة بالوطن العربي بداية هذا القرن:
+ فأمريكا (باسم هذه الأطروحة) دمرت العراق عن بكرة أبيه وقوضت سبل النهوض من بين ظهرانيه ووزعته إلى طوائف ومذاهب وأحزاب تتناحر جزئيا أو توشك على التناحر الشامل واعتبرت ذلك بمثابة " فوضى خلاقة" سرعان ما ستفرز الديموقراطية والتعددية والنهضة التي غالبا ما تستتبع هذه الفوضى بل توفر لها الأساس والبنية والسياق.
+ وأمريكا (باسم ذات الأطروحة) استنفرت الاحتراب بين الأطياف والتيارات اللبنانية (على خلفية من اغتيال رفيق الحريري)، فابتدعت لجنة تحقيق استصدرت انسحابا فوريا للجيش السوري من لبنان وأججت بموجبها النعرات بين السوريين واللبنانيين وخلقت حالة من الاستعداء الداخلي بلبنان أضحى الحليف نتيجته عدوا والعدو حليفا وبلغت درجة الفوضى بالمنطقة (على الأقل خطابا وتصريحات) لم يعد الخبير معها (فما بالك بالمتتبع العادي) يعرف الخيوط الناظمة ولا الفاعلين الأساس.
+ وأمريكا فرضت على المنطقة العربية الإيديولوجيا إياها (إيديولوجيا "الفوضى الخلاقة") فأثارت حساسيات السودانيين على بعضهم البعض (باسم حق تقرير مصير " شعب دارفور") والمصريين ضد المصريين (تحت مسوغة "اضطهاد المسلمين للأقباط") واستنفرت العصبيات العرقية بشمال سوريا كما المذهبية بالبحرين وفتحت في المجال شاسعا للمنظمات المعارضة تمويلا وتأييدا بغرض زعزعة هذا البلد أو ذاك.
+ وأمريكا ضيقت الحصار على إيران بالوكالة الدولية للطاقة الذرية وأذكت نار الفتنة بينها وبين جيرانها (سيما بالعراق) وحملتها "أوزار" ما تعمد إليه المقاومة العراقية على خلفية من " تمويلها لمجموعات مناهضة للوجود الأمريكي بالمنطقة"... وهكذا.
لا تنحصر إيديولوجيا "الفوضى الخلاقة"، التي قدمنا لبعض من تمظهراتها هنا، في جانب إشاعة الفوضى كغاية في حد ذاتها فحسب، بل وأيضا كوسيلة وأداة تتغيأ "الأمبراطورية الأمريكية" من خلالها إدراك ما لم يتم لها إدراكه إن استقام النظام بهذه الجهة أو تلك: 


°- فهي تتطلع لخلق مسوغات على الأرض (عسكريا بالأساس) تفتح لها في سبل احتلال الأرض والمواقع الجيوستراتيجية ثم بعد ذلك (وبعد ذلك فقط) تملي طبيعة نظام الحكم السياسي الذي من المفروض (وفق تصورها) إقامته وتعزيز مقوماته " وضمان الاستقرار" لمكوناته.



بالتالي، فهي لا تقتصر على تسويغ "إيجابية الاحتلال العسكري"، بل وتريد إبرازه كما لو أنه "الممر الطبيعي والضروري" لبناء الدولة (عبر التعددية) والاقتصاد عبر التدمير وإعادة "البناء الإيجابي"...تماما كما يعمد مقاول شامبيتر إلى ذلك. 



°- وهي لا ترتكن في ذلك إلى حدود جغرافية مقامة عقب مرحلة الاستعمار أو منقض عليها بالنواجد والأظفار من لدن هذه الدولة الصنيعة أو تلك، بل تعتبرها من رواسب مرحلة لم تعد تماشي الطرح الأمبراطوري الذي تعتزم الولايات المتحدة تسييده بقوة النار والحديد إن تعذر عليها ذلك بفعل الابتزاز الدبلوماسي أو بركوب موجة الحصار أو باستنفار "حقوق الأقليات والطوائف والأعراق" وما سواها.

°- وهي لا تضع تمييزا ولا تمايزا بين "مثلها" في الديموقراطية وحقوق الإنسان (في الأخلاق يقول البعض) وبين مصالحها الآنية والمستقبلية التي على خلفية من حمايتها تبنت "مبدأ الحروب الاستباقية" وحماية الحلفاء (حتى باستبدادهم) والدود عن الأهداف الاستراتيجية بمسوغ أخلاقي " شرعي" (بمجلس الأمن مثلا) أو دونما مسوغ في ذلك يذكر (حالة غزو العراق واحتلاله وضرب أفغانستان واحتلاله أيضا).


لم يترتب عن السلوك إياه اضطرار الدول الكبرى للاصطفاف خلف الولايات المتحدة ومجاراتها في "حربها على الإرهاب" (بعدما تبين لها أن لا فائدة من مناطحتها بهذه المنظمة الدولية أو تلك)، بل سار على ركبه حكام عرب مخافة سبل الفوضى التي لا تعدم الولايات المتحدة سبل تأجيج نارها والذهاب بها إلى مستويات قد تحرق الأخضر واليابس دون مفاضلة.


ولئن كنا لا نشك في قدرة الولايات المتحدة الفائقة على زرع الفوضى واستنبات أدوات الفتن والحروب بالمباشر الواضح (كما بالعراق وسوريا والسودان ومصر وغيرها) كما بالتوجيه عن بعد (كما بحالة لبنان على الأقل منذ اغتيال رفيق الحريري)، فإننا لا نشك قيد أنملة في الممانعة الحقيقية القائمة في وجه هذه الإيديولوجيا بهذه الجهة من العالم كما بتلك:


+ فالولايات المتحدة لم تجن من الإيديولوجيا إياها إلا اشتداد التطرف من حولها (سياسيا بأمريكا الجنوبية في سياق انتصار الحكومات اليسارية المناوءة لها) وتزايد الاحتقان من بين ظهراني شعوب بدأ حكامها يخشون من المضي معها إلى ما لا نهاية تنسيقا أو انصياعا أعمى (حالة شعوب المغرب العربي مثلا).

+ والولايات المتحدة دمرت العراق في أفق تحويله إلى " نقطة إشعاع في الديموقراطية"، فإذا به يتحول إلى نار طائفية ومذهبية موصدة ينطفئ على محرابها يوما عن يوم أمل استعادة العراق لمركزه ورمزيته ولمستوى الحضارة التي اؤتمن عليها لقرون عديدة مضت.

ولئن كنا على يقين تام بأن أمريكا لم تعمد إلى حل الجيش العراقي اعتباطا أو نتيجة سوء تقدير من لدنها، فإننا نزعم اليقين ذاته في حالة سوء تقديرها للفوضى التي ترتبت عن الحل إياه حتى وإن بنت على أساس من حقيقتها أطروحتها في "التدمير البناء".  

+ والولايات المتحدة بمساندتها لنظم عميلة لها خلقت أجواء من الاحتقان السياسي والاجتماعي لن يكون من شأنه إلا إفراز حركات متطرفة مناهضة لها، محاربة لها ومصممة على إلحاق الأذى بمواطنيها كما بمصالحها عبر العالم.



قد تكون إيديولوجيا "الفوضى الخلاقة" عنوان إيديولوجيا أمبراطورية أضحت تعيش فوق إمكاناتها. وقد يكون مرد ذلك ضعف في البصر لديها (وهي ببداية المنحدر) أو سوء تقدير مستمر من لدنها يذكيه مع مرور الزمن متطرفون ومحافظون أعماهم جبروت الأمبراطورية...


لكن المؤكد فيما نزعم أن أمريكا بإيديولوجيا "الفوضى الخلاقة" هاته، إنما تبرهن على ضعف كبير في البصر وقصور أكبر في البصيرة. 





يحيى اليحياوي





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.