الحروب الصليبية

السبت، 26 مارس 2011

الرد المبين على من أجاز ولاية الكافر على المسلمين.........الشيخ :إيهاب كمال أحمد



الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله خَير خَلْق الله أجمعين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه الأخيار الطَّاهرين.
وبعد:
فإنَّنا - في زماننا هذا - قد ابْتُلينا بطائفة يَنسبون أنفسهم لأهل العلم والفتوى، لكنَّهم يُصدرون فتاوى تُخالف الكتاب والسُّنة وما استقرَّ عليه إجماعُ العلماء المعتبَرين، ويتكلَّفون استدلالاتٍ بعيدةً عجيبة، ويلوون أعناق النُّصوص؛ لِيُبرهنوا على أقوالهم المتهافِتة.

ومن ذلك ما أفتى به بعضهم مؤخَّرًا من جواز تولِّي الكافرِ الولايةَ العظمى في بلاد المسلمين؛ ليكون حاكمًا عليهم، مدبِّرًا لشؤونِهم، متصرِّفًا في أمورهم، وله حقُّ الطاعة عليهم؛ مستدلِّين على ذلك بتولِّي سيدنا يوسف - عليه السَّلام - للولاية في ظلِّ حُكم مَلِكٍ كافر، وبتولِّي الكُفَّار لبعض الولايات الخاصة في بلاد المسلمين بلا إنكارٍ أو تَثريب، مثل رئاسة بعضهم لاتِّحاد مُلاَّك عمارة سكَنية، وقالوا: إن هؤلاء الكُفَّارَ شركاء لنا في الوطن، ومِن ثَمَّ يجب أن يتساوَوْا مع المسلمين في الحقوق والواجبات!
والحَقُّ أن هذا كلام بعيدٌ عن الصَّواب، مُخالف للحقِّ من وجوه، منها:
أولاً: أن وظيفة حُكَّام المسلمين الرئيسة هي إقامة شرع الله وإعلاءُ كلمته، وسياسة الدُّنيا بالدِّين، وحِفظ حدود الله ودينه وحقوق عبادِه، فالخلافة نيابةٌ عن النُّبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا به، وليست مجرَّد وظيفة.
قال الماورديُّ: "الإمامة موضوعةٌ لِخلافة النُّبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا، وعقدها لِمن يقوم بها في الأُمَّة واجب"[1].
وقال ابن تيميَّة: "فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخَلْق، الذي متى فاتَهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به من الدُّنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدِّين إلاَّ به من أمر دنياهم"[2].
فكيف يُظنُّ بكافر لا يؤمن بالإسلام دينًا أن يقوم بهذه الوظيفة؟! وكيف نضع أمانةَ حِراسة الدِّين بين يدَيْ مَن يكفر به؟
ثانيًا: أن النُّصوص الشرعية دلَّت على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ابتداءً، وأنَّه لو طرأ عليه الكفر بعد توَلِّيه، فإنه ينعزل وتَسقط ولايته.
قال الله تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141].
قال القاضي ابن العربيِّ: "إنَّ الله سبحانه لا يَجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً بالشَّرع، فإن وجد فبِخلاف الشرع"[3].
وقال الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، فدلَّ بقوله: ﴿ مِنْكُمْ ﴾ على أنَّ أولي الأمر يجب أن يكونوا من المسلمين المؤمنين؛ لأنَّ الخِطاب متوجِّه إليهم من بداية الآية.
وقال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].
قال القرطبيُّ: "نَهى الله المؤمنين بِهذه الآية أن يَتَّخِذوا من الكُفَّار واليهود وأهل الأهواء دُخلاءَ ووُلَجاء يُفاوضونهم في الآراء، ويُسندون إليهم أمورَهم"[4].
فكيف باتِّخاذهم حكامًا وولاةً للأمور؟!
وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 144].
قال ابن كثير: "يَنهى تعالى عباده المؤمنين عن اتِّخاذ الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين؛ يَعني: مصاحبَتَهم، ومُصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرارَ المودَّةِ إليهم، وإفشاءَ أحوال المؤمنين الباطنةِ إليهم"[5].
وقال القرطبيُّ: "أيْ: لا تجعلوا خاصَّتَكم وبِطانتكم منهم"[6].
فإن كانت مصادقتُهم وإفشاءُ أحوال المؤمنين الباطنةِ إليهم، وجعْلُهم من الخَواصِّ - من صور الموالاة التي نَهت عنها الآية، فلا ريب أنَّ توليتهم أمْرَ المسلمين، وجعْلَهم حكامًا عليهم من أظهر صُوَر الموالاة لهم وأشَدِّها تحريمًا.
وعن عُبَادة بن الصَّامت قال: "دعانا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبايَعناه، فكان فيما أخذَ علينا أنْ بايعَنَا على السَّمع والطاعة في منشَطِنا ومَكرهِنا، وعُسرنا ويُسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وأن لا نُنازِع الأمر أهلَه، قال: ((إلاَّ أن ترَوْا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان))"[7].
قال القاضي عياض: "فلو طرأَ عليه كُفرٌ وتغيير للشَّرع، أو بدعةٌ، خرجَ عن حكم الولاية، وسقطَت طاعته، ووجب على المسلمين القيامُ عليه وخَلْعُه، ونصب إمام عادلٍ إن أمكنَهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاَّ لطائفةٍ وجب عليهم القيامُ بِخَلع الكافر"[8].
ثالثًا: أنَّ إجماع المسلمين منعقِدٌ على اعتبار شرط الإسلام فيمن يتولَّى حكم المسلمين وولايتهم، وأنَّ الكافر لا ولاية له على المُسلم بحال.
قال القاضي عياض: "أجمع العلماءُ على أنَّ الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنَّه لو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامةَ الصَّلوات والدُّعاءَ إليها"[9].
وقال ابن المنذِر: إنَّه قد "أجمع كلُّ مَن يُحفَظ عنه مِن أهل العلم أنَّ الكافر لا ولايةَ له على المسلم بِحال"[10].
وقال ابن حَزم: "واتَّفقوا أنَّ الإمامة لا تجوز لامرأةٍ ولا لكافر ولا لصبِي"[11].
وقال ابن حجَر: إنَّ الإمام "ينعزل بالكفر إجماعًا، فيَجِب على كلِّ مسلمٍ القيامُ في ذلك، فمَن قوي على ذلك فله الثَّواب، ومَن داهن فعليه الإثم، ومن عَجز وجبَتْ عليه الهجرةُ من تلك الأرض"[12].
رابعًا: رجَّح جمهورُ العلماء أنَّ فِسق الحاكم فسقًا ظاهرًا معلومًا يؤدِّي لِسُقوط ولايته، ويكون مسوِّغًا للخروج عليه عند أمن إراقة الدِّماء وحدوث الفِتَن؛ وذلك لأنَّ فسقه قد يُقْعِده عن القيام بواجباته الشَّرعية؛ من إقامة الحدود، ورعاية الحقوق، وحِفظ دين رعيَّتِه ومعاشهم.
قال القرطبِيُّ: "الإمام إذا نُصِّب ثم فسَق بعدَ انبِرام العقد، فقال الجمهورُ: إنَّه تنفسخ إمامتُه ويُخلَع بالفسق الظَّاهر المعلوم؛ لأنَّه قد ثبت أنَّ الإمام إنَّما يُقام لإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وحِفظ أموال الأيتام والمَجانين، والنظر في أمورهم إلى غير ذلك...، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنُّهوض بها.
فلو جوَّزنا أن يكون فاسقًا، أدَّى إلى إبطال ما أقيم لأجلِه، ألا تَرى في الابتداء إنَّما لم يَجُز أن يعقد للفاسق لأجل أنَّه يؤدِّي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله"[13].
فإن كان هذا قولَهم في حاكمٍ له ولاية وبيعة، ثم طرأ عليه الفِسق، فكيف بكافرٍ أصلي لا بيعةَ له ولا ولاية؟ كيف يَستقيم في شرعٍ أو عقل أن تُعطى الولاية وحكم المسلمين ابتداءً لكافرٍ أصلي؟
خامسًا: أنَّ ما استَدلَّ به أولئك المُفتون بِجواز ولاية الكافر لا دلالة فيه مطلقًا، ولا يَصلح معارضًا للأدلَّة الصريحة الصحيحة المُخالفة لهم.
• فقد بنَى بعضُهم استدلالَه على ما جاء في قصة سيدنا يوسُف - عليه السَّلام - حين طلب من الملِك أن يَجعله على خزائن الأرض، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، وقالوا: إن يوسف - عليه السَّلام - كان وزيرًا تحت إمرة ملِك كافر، وهذا يدلُّ على جواز ولاية الكافر.
وهذا استدلالٌ مردود من وجوه، منها:
1- أنَّ هذا مِن شرع مَن قبلنا، وقد تقرَّر في الأصول أنَّ شرع من قبلنا ليس بِشَرع لنا، ولا حُجَّة فيه إذا جاء في شرعِنا ما يُخالفه[14].
2- ليس في القصَّة ما يفيد إقرارَ يوسف - عليه السَّلام - لولاية الكافر، وإنَّما جاء فعل يوسف - عليه السَّلام - إقامةً للعدل والقسط، وحفظًا للحقوق، ودفعًا للظُّلم وإضاعةِ المال في غير حقِّه؛ ولذلك علَّل طلبَه للولاية بأنَّه"حفيظ عليم".
فما فعله سيِّدُنا يوسف - عليه السَّلام - هو نوعٌ من تقليص سلطان الكافر واختزالِه؛ جلبًا للمصالِح، ودفعًا للمفاسد، ولا يلزم من ذلك إقرارٌ لولاية ذلك الكافر، أو موافَقةٌ على حكمه.
قال القاضي ابن العربي:
"فإن قيل: كيف استجاز أن يَقبلها بتولية كافر، وهو مؤمن نبِي؟
قلنا: لَم يكن سؤالَ ولاية؛ إنَّما كان سؤال تَخلٍّ وتركٍ؛ لينتقل إليه، فإنَّ الله لو شاء لَمكَّنه منها بالقتل والموت، والغلَبة والظُّهور، والسُّلطان والقهر، لكنَّ الله أجرى سُنَّته على ما ذكَر في الأنبياء والأمم، فبعضُهم عاملهم الأنبياء بالقهر والسُّلطان والاستعلاء، وبعضهم عاملَهم الأنبياء بالسِّياسة والابتلاء، يدلُّ على ذلك قولُه: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56][15].
3- أنَّ مناط الحكم في المسألتين مُختلِف؛ فإنَّ الدولة التي كان فيها يوسف - عليه السَّلام - لم تكن دولةً إسلاميَّة، ولم يكن أهلها مسلِمين موحِّدين، كما أن يوسف - عليه السَّلام - لم يُشارك في تولية ذلك الكافر، ولَم يكن بوسعه أن يخلعه ويعزله وهو المستضعف الذي سُجِن ظلمًا في سجن هذا الملِك.
• ومن استدلالات أولئك المُجيزين لولاية الكافر على المسلمين: قياسُ الولاية العُظمى على ما قد يتقلَّده الكفار في بلاد المسلمين من وظائِفَ ومناصب دنيويَّة خاصَّةٍ ومَحدودة، مثل رئاسة اتِّحادات المُلاَّك في العمارات السَّكنية، أو قيادة مَركبة.
فقالوا: إن كُنَّا نجيز للكافر أن يتولَّى رئاسة اتِّحاد الملاَّك في عمارة سكنية؛ لو كان الأكثرَ قدرةً وكفاءة على إدارتها، فلماذا لا نُجيز له أن يتولَّى حُكم البلاد؟!
وهذا من أعجب الاستدلالات، وأكثَرِها بُعدًا عن القواعد والأصول.
فهل تولِّي الكافر لرئاسة اتحاد ملاَّك يَصلح حُجَّةً يُستدلُّ بها، وأصلاً يُقاس عليه؟
وهل يُمكن قياس الولاية العظمى التي ينبغي فيها إقامةُ الحدود، والجهاد، والفرائض، وتحكيم شرع الله في الدِّماء والأموال والأعراض - على ولايةٍ خاصَّة، في شأنٍ خاص، غايتُه جمعُ الاشتراكات وصيانة المرافق؟ هذا وربِّ الكعبة في القياسِ عجيب.
إنَّ الإمامة العُظمى في بلاد المسلمين كما ذكَرْنا آنِفًا هي وظيفة دينيَّة في الأساس، وهي موضوعة لِخلافة النُّبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا به؛ ومن ثَمَّ لا يَصلح شرعًا وعقلاً أن تُقاس على وظائفَ دنيويَّة بَحتة؛ كتولِّي قيادة سيَّارة، أو رئاسة اتِّحاد ملاك.
سادسًا: إنَّ الشريعة الإسلامية حين حَرَّمت ولاية الكافر على المسلم فإنَّها لَم تَغمط غير المسلمين أو تَسلبهم حقًّا لهم؛ وإنَّما قد راعَتْ في ذلك تحصيلَ المصالح العظمى للمجتمع كلِّه - المسلمين وغيرهم - لأنَّ الخير والعدل كلَّه في سياسة الدُّنيا بالدِّين، والتَّحاكُم إلى شرع الإسلام، والعيش في ظلِّ شريعته التامَّة، السَّمحة السامية.
ولا جدال أن أوَّل لوازمِ تلك الوظيفة ومقوِّماتها أن يتولاَّها من يؤمن بهذا الدِّين الكامل، ويحرص على حفظه وإعلاء كلمته، ويدين الله تعالى بتطبيق شريعته التامَّة؛ ولذلك كان اشتراطُ الإسلام فيمن يتولَّى الإمامة العظمى طبيعيًّا، يتَّفِق مع قواعد الشرع والعقل.
والشريعة الإسلامية في مقابل ذلك قد أمرَت المسلمين - حُكَّامًا ومحكومين - بالعدل والقسط في أهل الذِّمة، وحرَّمَت ظلمهم، والاعتداءَ عليهم بالباطل، كما أمرَت بالوفاء بعهدهم وذمَّتِهم، وحضَّت على دعوتِهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وشرعت بِرَّهم والإحسانَ إليهم ما استقاموا في عهدهم، وأوفَوْا بذِمَّتِهم.
قال الله - تعالى -: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
وقال: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
وعن عبدالله بن عمْرٍو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن قتَل مُعاهَدًا لَم يرحْ رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا))[16].
وأخيرًا، فإنَّ مشاركة المسلمين للكفار في وطَنٍ واحد لا تعني بالضرورة تَساوِيَهم في الحقوق والواجبات، وإنَّما تُوجِب إقامة العَدل والقسط على الجميع، والعدل لا يعني المساواة في كلِّ شيء؛ وإنَّما يعني إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ومطالبتَه بأداء ما عليه من واجبات، والمَرجِع في تحديد الحقوق والواجبات هو شرعُ الله، لا غير.
والناس لا يتساوَوْن في كلِّ شيء حتَّى تكون لهم نفس الحقوق والواجبات؛ وإنَّما يتفاوتون في ذلك، ويَختلفون باعتبارات متنوِّعة متعدِّدة.
فهل من العدل مثلاً أن نُساوي بين المسلمين وغيرهم في الأمر بالخروج لجهاد الطَّلَب، ونأمر غير المسلم بِبَذل روحِه ومالِه؛ من أجل إظهار دينٍ لا يُؤمِن به؟! أم نَترك الأمر بِجهاد الطَّلَب بالكُلِّية، فلا نتوجَّه به للمُسلم، ولا لغير المسلم؟
إنَّنا إنْ قلنا بالمساواة هنا، فسنَقع بين مَطرقة ظُلم غير المسلمين، وسِنْدانِ تعطيل شعيرة الجهاد، والمخرج من ذلك هو تطبيق العدل الربَّاني في تحديد الحقوق والواجبات كما جاءت بذلك شريعةُ الله تعالى.
ومما سبق يظهر جلِيًّا - بحمد الله - خطَأُ ما ذهب إليه أولئك المُفْتُون، وسقوطُ استدلالِهم، وفسادُ قياسهم، ومُخالفتُهم للنُّصوص الشرعية القاطعة، والإجماعِ المنعقِد.
وهكذا دائمًا تجد أهل الباطل لا تستقيم لهم حجَّة، ولا يصحُّ لَهم استدلال؛ لأنَّ الباطل لَجْلج، لن تُقوِّيَه دعاوى المبطِلين، ولن تُقيمَه فتاوى المداهنين.
نسأل الله أن ينوِّر بصائرنا، وأن يرِيَنا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابَه، وألاَّ يجعل مصيبتنا في ديننا، ولا يَجعل الدُّنيا أكبرَ هَمِّنا، ولا مبلغَ علمنا، وأن يَستعملنا في خدمة الدِّين، وأن يولِّي أمورَنا خيارنا، ويهيِّئ لنا أمر رُشْد، يعزُّ فيه أهل طاعته، ويذلُّ فيه أهل معصيته، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسولِه محمدٍ خير الأنام، وعلى آله وأزواجه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسان.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] "الأحكام السُّلطانية"، ص5.
[2] "السياسة الشَّرعية"، ص13.
[3] "أحكام القرآن" (1/ 641)، وانظر: تفسير "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 421).
[4] تفسير "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (4/ 179).
[5] "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (1/ 867).
[6] تفسير "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 425).
[7] "مسلم" (3427).
[8] "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 314).
[9] "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 315).
[10] نقله عنه ابن القيم في "أحكام أهل الذِّمَّة" (2/ 787).
[11] "مراتب الإجماع" ص208، ولم يتعقبه ابن تيميَّة في نقد مراتب الإجماع؛ مما يدلُّ على موافقتِه له.
[12] "فتح الباري" (13/ 123).
[13] "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 271).
[14] انظر: "المستصفى في أصول الفقه" للغزالي (1/ 133)، ولا يُلتفت لقول البعض: "إنَّ هذا ليس مما يقع فيه النَّسخ"؛ لأنَّها مسألةٌ لا تَدخل في الثوابت العقَدِيَّة التي اتَّفقتْ عليها الرسالات الإلهيَّة، كالقول في ذات الله وصفاته وكتبه ورسُلِه، هذا إنْ سلَّمْنا بصحة الاستدلال، ونحن لا نسلِّم به.
[15] "أحكام القرآن" (60).
[16] أخرجه البخاري (2930).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.