الحروب الصليبية

السبت، 26 مارس 2011

د. سامح عباس يكتب : مصر... وسيناريو صراع الهوية بين الإسلام والعلمانية


شهدت الساحة الداخلية المصرية عقب إسقاط الرئيس المخلوع حسني مبارك، كثير من التطورات والأحداث المتلاحقة، أبرزها على الإطلاق حالة الجدل المتزايد، الذي تفاقمت حدته، وتصاعدت لهجته مع الأيام القليلة التي سبقت التصويت على الاستفتاء الشعبي حول التعديلات الدستورية، واستمر هذا الجدل في أعقابه لحد وصل في بعض الأحيان إلى درجة التخوين واتهامات بالعمالة للنظام السابق، بين معسكرين مؤيدي تعديل الدستور، ومعارضيه.



هذا الانقسام المصطنع داخل جدار المجتمع المصري كاد يطمس مكتسبات ثورة 25 يناير المباركة، ويقوض فرص انطلاقها لآفاق جديدة لتحقيق الاستقرار والديموقراطية، من خلال الترويج لثقافة الفوضى والمشاحنات بين المصريين. وقد اعتبر البعض هذا الانقسام والخلاف في وجهة النظر بين أبناء الشعب المصري، هو إحدى ثمار الديموقراطية التي حققتها الثورة، وأن الاستفتاء الشعبي حول التعديلات الدستورية والخلافات بشأنها ما هي إلا مؤشر حقيقي لحرية الرأي، وأن الشعب المصري بات يسير على درب الديموقراطية وحرية التعبير دون قيد أو شرط.


سيناريوهات الهوية


لكن في واقع الأمر هذا الانقسام بين مؤيدي التعديلات الدستورية( القيادة العسكرية، الإخوان المسلمين، بقايا الحزب الوطني)بزعم الاستقرار واستئناف انطلاق عجلة الإنتاج في البلاد، والمعارضين لها ( العلمانيين، المسيحيين، الأحزاب الليبرالية، وقطاع كبير من شباب ثورة 25 يناير) بزعم معارضتهم لترقيع الدستور وضرورة وضع دستور جديد بعد الثورة يواكب التغيرات الجديدة في مصر، يعكس حقيقة الخلافات الجوهرية حول الهوية الجديدة لمصر، بعد عقود طويلة ظلت قابعة تحت حكم العسكريين منذ ثورة يوليو1952، ما بين مؤيدين لدولة دينية إسلامية، ومؤيدين لدولة مدنية علمانية، ولعل البون بين الهويتين شاسع ومتباعد، كبُعد السماء عن الأرض، لكن يتعين أولاً توضيح تلك المفاهيم، قبل الولوج في الحديث عن السيناريو المتوقع للصراع القادم في مصر حول هويتها المستقبلية:


أولاً : مفهوم الدولة الدينية -هي الدولة التي تطبق الشريعة الدينية التي جاء بها الوحي الإلهي أيا كانت تلك الشريعة، وليس القانون الوضعي الذي وضعه العقل البشري.


كما أن الدولة الدينية هي التي يحكمها رجال الدين و تنشأ لتجميع أبناء الدين الواحد من كل عرق وجنس ومكان.


ونموذج الدولة الدينية التي تقوم على أساس ثيوقراطي- وهو نموذج الدولة الدينية في الغرب- هو نموذج غير معروف في العالم العربي والإسلامي، والدولة الوحيدة القريبة من هذا النوع في العالم الإسلامي هي إيران.


ثانياً: مفهوم الدولة الإسلامية- هي الدولة التي فيها مجموعة من الأفراد المسلمين بحسب الغالب يقيمون في دار الإسلام، ويلتزمون التزاما حتمياً وقاطعاً بالقواعد والضوابط الإلهية في نظام العقيدة والتشريع، ويخضعون لسلطة سياسية تلتزم بالامتثال لأحكام الشريعة الإسلامية وكفالة تحقيق ما أمرت به. كما تعنى هذه الدولة بأن يكون الحكم في يد المسلمين لأنهم غالبية عظمى من المواطنين.


ثالثاً : مفهوم الدولة المدنية-هي الدولة التي يحكم فيها ويمسك بزمام أمورها في السياسة والاقتصاد وكل المناحى من هم أهل اختصاص وفهم وليسوا علماء دين أو رجال دين، وتقام الدولة على أكتاف مواطنيها الأصليين وهم غالبا من عرق واحد داخل المجتمع وإن تعددت واختلفت دياناتهم وتوجهاتهم الدينية.


رابعاً: مفهوم الدولة العلمانية- يعرف معجم روبير العلمانية (بفتح العين)، نسبة إلى العالم (بفتح اللام) بأنها :"مفهوم سياسي يقتضي الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، لا تمارس فيه الدولة أية سلطة دينية والكنائس لا تمارس أية سلطة سياسية".


وهذا التعريف للعلمانية هو الذي صاغه الإمام محمد عبده في مقولته الشهيرة "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" وهو الذي صاغه سعد زغلول في مقولته الشهيرة أيضاً:"الدين لله والوطن للجميع". فيما رأى آخرون بأن العلمانية هي رفض أية سلطات تشريعية أو تنفيذية في الدين تتدخل بحياة الفرد.


فالدين في العلمانية ينتهي عندما يخرج الفرد من المسجد أو من الكنيسة، وهو النموذج الذي سائد في تركيا.


أسئلة شائكة


وعلى ضوء تلك المفاهيم سالفة الذكر تتضح أمامنا ملامح السيناريو المرتقب لهوية مصر القادمة، والذي مرشح أن يشهد صدام عنيف- لا قدّر الله- بين المؤيدين والمعارضين لكل هوية، ولعل مؤشرات هذا الصراع قد ظهرت خلال الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية، الذي انتهى بأغلبية ساحقة بتأييد التعديلات، وهو ما اعتبره المعارضون، وبخاصة المسيحيين وأنصار الكنيسة القبطية، مقدمة لتوجه مصر نحو ارتداء العباءة الإسلامية.


لكن السؤال الشائك والمهم المطروح في المرحلة الراهنة، هو هل سيحسم التوجه الديموقراطي الذي تعيشه مصر حالياً بعد إسقاط النظام الديكتاتوري برئاسة حسني مبارك مسألة الصراع على هوية مصر، وبخاصة مع تشديد بعض التيارات الدينية الإسلامية وعلى رأسها الأخوان المسلمين على ضرورة التمسك بالديموقراطية خلال الفترة القادمة، على أساس أنها تضمن لهم التفوق بسبب قاعدة التأييد الكبيرة التي يحظون بها في الشارع المصري، وهل سيستسلم مؤيدي الهوية العلمانية لإمكانية أن تصبح مصر ذات هوية دينية إسلامية، خاصة على ضوء رفع الثورة المصرية لشعار الدولة المدنية ذات الطابع العلماني، ضمن شعاراتها الأساسية في مرحلة ما بعد سقوط مبارك، وهل تسليمهم بالدولة الدينية سيعتبر خيانة لأهم مبادئ ثورة 25 يناير، وهى تأسيس دولة مصرية مدنية ؟!.


اختبارات حاسمة


على أية حال لكي لا نستبق الأحداث، حيث أنه من السابق لأوانه تحديد هوية مصر في المرحلة الحالية، وبخاصة وأنها لا تزال قابعة تحت الحكم العسكري، وأن هناك الكثير من الاختبارات التي ستحسم بقوة الاتجاه الذي ستسير مصر على نهجه مستقبلاً، أولها ستكون على الأرجح انتخابات الرئاسة المصرية، وما سيعقبها من انتخابات برلمانية عامة لمجلسي الشعب والشورى المصريين إلى جانب الانتخابات المحلية.


لكن المعركة الكبرى حول الهوية الجديدة لمصر ستظهر بلا محالة في الانتخابات البرلمانية، التي ستكون الحد الفاصل بين معسكري مؤيدي الدولة الدينية ذات الطابع الإسلامي، ومؤيدي الدولة المدنية ذات الطابع العلماني؛ حيث من المتوقع أن يتحكم البرلمان القادم في رسم صورة مصر السياسية وتوجهاتها، خاصة في ظل التعديلات الدستورية الجديدة التي تهدف للحد من سلطات رئيس الجمهورية، على الرغم من أنه هو المنوط بوضع دستور جديد للبلاد.


حملة مغرضة


الملاحظ في الفترة الأخيرة أن هناك حملة تخويف وإرهاب منظمة ضد إقامة دولة ذات طابع إسلامي في مصر، واستخدمها البعض كفزَّاعة، كما سبق وأن استخدمها النظام المصري المخلوع، لتخويف الغرب من جهة أن دولة كهذه ستهدد مصالحه في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة المصالحة الأمريكية، وإرهاب المصريين من جهة أخرى من إمكانية سيطرة الإسلاميين على مقاليد الأمور في البلاد، مما يعني تقويض حريتهم وممارسة الإكراه الديني بكافة أشكاله.


هدف الحملة التي تصاعدت وتيرتها عقب نتائج الاستفتاء حول التعديلات الدستورية، هو جذب مصر نحو الدولة العلمانية بأي شكل من الأشكال، ويحاول القائمون عليها توجيه ضربة استباقية للتيارات الإسلامية، تارة من خلال تشويه رموزها، وتارة أخرى من خلال العمل على إثارة طبقات الشعب المختلفة، وبخاصة المتوسطة ضدها، من خلال الحديث السخيف بوجود تحالف بين التيار الإسلامي، متمثلاً في الإخوان المسلمين وفلول الحزب الوطني الديموقراطي، باعتبارهما أقوى تشكيلين حزبيين منظمين في الوقت الراهن.


مصر الإسلامية


لا شك أن مصر تمتلك الكثير من المقومات والوسائل التي تكفل لها إقامة نظام إسلامي معتدل قائم على مذهب أهل السنة، أهمها هو أن الشعب المصري متدين في أساسه، وظل متمسكاً بمبادئ دينه الحنيف، رغم المحاولات الفاشلة للأنظمة العسكرية التي قبعت على حكم مصر، لإخراجه من بوتقته الدينية الإسلامية.


كما يبدو أن الوقت قد حان للأزهر الشريف وعلمائه أن يضطلعوا بدورهم الديني والتاريخي، للتحرر من الأغلال والقيود التي كبلته سنوات وعقود طويلة، وليقودوا مسيرة مصر الجديدة نحو استعادة هويتها الإسلامية المعتدلة، بعيداً عن التطرف والمغالاة، ولتعود أرض الكنانة لمكانتها المعهودة كمنارة دينية للعالم العربي والإسلامي أجمع.


ختاماً نشير إلى أن استعادة مصر لهويتها الإسلامية، سيكون لها تداعيات إقليمية ودولية واسعة النطاق، ستسهم في حسم الكثير من القضايا العربية والإسلامية العالقة لسنوات طويلة، من بينها القضية الفلسطينية، حيث أن مصر الإسلامية ستكون أقوى رادع لدولة الاحتلال الصهيوني، يجبرها على إعادة الحقوق العربية لأصحابها.


 كما أن مصر الإسلامية ستكون السد المنيع الذي سيوقف التوسع الشيعي الصفوي الذي تقوده إيران حالياً بضراوة في شتى أنحاء العالم العربي السني.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.