في خضم الأزمات المستحكمة التي تشهدها الأمة والتي جسدتها الثورات العربية المعاصرة، عادت إلى الساحة الفكرية والمنهجية قضية تحكيم الشريعة والموقف منها، سواء في ظل الخطاب الحاضن لها والمتبني لمضامينها والخطاب الرافض لها جملة وتفصيلاً، أعني به الخطاب العلماني الذي يستند على لا دينية الدولة والمنهج، والباحث ليس من مقاصده إعادة تأصيل هذه القضية ومنهجتها وفقاً للرؤية التي تبدو له أنها أشبعت بحثاً ودراسة، وليس بعيداً من حيث الزمان الإشارة إلى كتابات الأخوين قطب والمودودي وأمثالهم الذين جعلوا هذه القضية محوراً رئيساً في كتاباتهم ومؤلفاتهم، بالإضافة إلى كثير من الدراسات والبحوث الجامعية التي أصلت للموضوع ودارت حوله، وعرضت لمرجعيته ومشروعيته، وعليه يرى الباحث أن مراجعة القضية في إطارها التأصيلي الشرعي بعد هذا الكم الهائل من الدراسات والبحوث يعد تكراراً لا يحقق أهدافاً بحثية ومنهجية يكون لها موقعها الحقيقي في إطار البحوث والدراسات الأصيلة من حيث جدتها وإحكامها المنهجي.
وتأسيساً على ما تقدم فإن الباحث يرى أن ينتهج منهجية مغايرة لا تخرج من حيث الجملة عن الإطار الشرعي التأصيلي، إلا أنها تعرض الموضوع في ضوء سياقاته النصية والموضوعية بصياغة في إطار المنظور الحضاري الإسلامي الذي يستبطن منظومة معرفية توحيدية ذات خصائص مميزة تجد مركزها في الإله الخالق، وتتميز بقيامها على إطار مرجعي جامع هو التوحيد الذي ينفتح على عالمي الغيب والشهادة انفتاحاً مزدوجاً، إذ ينفتح رأسياً حين تأخذ مصادره المعرفية بالوحي ممثلاً في القرآن الكريم الذي يعد اللحمة التي تربط عالم الغيب والشهادة، والبيان النبوي على اعتبار وظيفته البيانية للقرآن الكريم، والوحي هنا ليس أمراً تاريخياً، بل هو مصدر أساسي تلتقي حوله الأبعاد القيمية الغيبية بالأبعاد المادية الحاضرة، كذا ينفتح أفقياً على الغير باعتباره مشاركاً في عملية البناء الحضاري، ويكون دائراً في إطار سنة التعارف القرآنية، إذ جعل الله الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وليس بالإمكان ممارسة المنهجية الإقصائية التي أضحت من معوقات التعايش الحضاري السلمي في إطار الشعب الواحد أو بين الشعوب المتعددة، والباحث هنا ليس مراده تغييب مقتضيات الخطاب الشرعي، بالقدر الذي يرمي إلى ضرورة معرفة الأطر التنزيلية التي تساعدنا على تحقيق مقاصد الخطاب بعيداً عن التعسف والتكلف في التنزيل، وبعيداً عن سياسة التعانف التي أضحت مع الأسف لصيقة بقصد أو دون قصد بالخطاب الإسلامي أو بعبارة أكثر تحديداً بالخطاب السلفي، من هنا ارتأى الباحث أن يقف أولاً عند قضيتين متلازمتين في ظنه يمكن من خلال بيان مفاصلهما ومضامينهما تجلية قضية تحكيم الشريعة بالطريقة التي تجتنب الصورة المتشنجة التي يمارسها بعض أرباب الخطاب السلفي، والإشكالية الرئيسة التي تحيط بهذه القضية تكمن في أن عرض قضية تحكيم الشريعة بقي في إطاره التنظيري دون أن يتجسد في نظم وبرامج تخطيطية وتنفيذية تتجاوز الإشكالية التنظيرية.
إذا تأملنا الخطاب القرآني في سياقه النصي يبرز لنا التلازم بين قضية استخلاف الإنسان في الأرض وجعل الوحي حاكماً، يتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 38-39] ، لقد أظهرت قضية الاستخلاف القرآني أن للإنسان غاية في الحياة هي تحقيق الخلافة في الأرض، وبهذا أضحت مهمته واضحة جلية وارتبط بها التكليف وعليه يحاسب يوم القيامة، ولا يذهب المرء بعيداً في تنزيل آية الاستخلاف على شخص آدم فحسب، بل المقصود نوع الإنسان عامة، إذ جاءت الآية في معرض الإخبار بخلق نوع جديد، وليس في معرض البيان لأحوال خاصة بشخص آدم، لقد ذكر الاستخلاف في القرآن الكريم مقروناً بالأرض أكثر من مرة، ومنها هذا الموضع، ومعنى الاستخلاف في الأرض إمكان التصرف والتوطن فيها، وتكرار ورود الاستخلاف مقترناً بالأرض يشير إلى سمتين لهذا المفهوم:
الأولى: أن الاستخلاف منوط بهذه الأرض التي جعلت مكاناً للاستقرار الدنيوي للإنسان بما فيها من مكونات طبيعية جعلت ملائمة لقيام حياة إنسانية فوقها. ومعنى هذا أن نجاح الإنسان في القيام بمهمة الاستخلاف متوقف على حسن تدبيره لما في الأرض وما عليها.
الثانية: هي وقتية الاستخلاف؛ لأن ارتباط الإنسان بالأرض يعني أنه ينتهي بانتهائها، وهذا يتوافق مع لفظ الاستخلاف، فهو يعني النيابة عن الغير أو التصرف في ملك الغير، ولأن الاستخلاف مجرد نيابة عن المالك للتصرف في ملكه، فإن من حق المالك المستخلِف أن يبدل المستخلَفين إذا ما أخلوا بشروط الاستخلاف وهذا ما دلت عليه الآيات القرآنية، يقول تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 133]، وقال سبحانه: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [هود: 57].
فهو استخلاف مؤقت تتعاقب عليه الأجيال وفق سنن إلهية محكمة وقواعد ربانية منضبطة أشار إليها قوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، فالآية فيها ارتباط بين قضية الإيمان ومفهوم الاستخلاف، ذلك أن الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض (أمانة الاستخلاف)، فالاستخلاف في الأرض في سياق الآية لا يدل على مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، فهذه عوارض الاستخلاف، وهي دائرة في الإطار الوسائلي لا المقاصدي الذي يصب في مفهوم العبادة بمعناها الشامل، إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله عز وجل، وعلى هذا الأساس ارتبط التمكين بالاستخلاف.
إذاً قضية الاستخلاف مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ومتلازماً بقضية الاستمساك بمنهج الهداية الذي دل عليه قوله تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 38-39]، والحق أن منهج الهداية الذي سيق في هذه الآية داخل في المنظومة الغائية الكبرى التي تدور مع مفهوم العبادة، وعلى هذا الأساس تكون حركة الإنسان على الأرض في كل اتجاهاتها الفردية والجماعية، والمادية والمعنوية حركة عبادة لله تعالى، وبهذا تكون حركة الإنسان متحققة بالوصف المقاصدي الذي ارتبط به الخلق، وعلى أساس منهج الهداية تتأسس حاكمية الكتاب موضوعنا الأساس الذي ندور معه، وهو مفهوم يستلزم قراءته في إطاره التاريخي الذي أحاط به القرآن، ولذلك يمكن القول إن هذا المفهوم ينتمي من حيث قراءته الاصطلاحية إلى منظومة تسلسلية أصَّلها في الإطار نفسه سياق سورة البقرة في قراءة تاريخية لمفهوم الاستخلاف في الأرض، وعليه فإن الباحث لا بد أن يكون دقيقاً أو يقارب عندما يلامس المفهوم في مضامينه وتأثيراته المنهجية والمجالية، والمنظومة التسلسلية التي جلتها السورة المذكورة مما تعلق بالمفهوم تتمثل من حيث الإجمال في: الحاكمية الإلهية المباشرة، والحاكمية الإلهية غير المباشرة، وحاكمية الكتاب.
أما الحاكمية الإلهية المباشرة فقد اتخذت صورة الاصطفاء لأداء مهام استخلافية محددة وفقاً لمفهوم الجعل الإلهي، كما ظهر في سياق قصة أبي البشر آدم وقصة أبي الأنبياء إبراهيم عليهما السلام، قال تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، وقال: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [البقرة: 124]، وتجلت الحاكمية المباشرة كذلك في بدايات بني إسرائيل حين اقترنت بعطاء إلهي خارق للعادة يستجيب لهم في كل ما يطلبون؛ لأنهم كانوا يمثلون حالة ومرحلة بشرية يرتبط وعي الإنسان فيها بحواسه أكثر مما يرتبط بأي شيء آخر، وأما الحاكمية الإلهية غير المباشرة، فإنها مرتبطة كذلك ببني إسرائيل على إثر اللجاج الذي تلبسوا به عند مطالبتهم الله سبحانه أن يكل أمرهم إلى خلفاء له من أنبيائهم، فجعل الله فيهم داود خليفة نبياً، وسليمان ملكاً نبياً، إلا أنهم لم يستقيموا على هذه الحال بل طالبوه بالتنحي عن حكمهم حيث أمرهم بدخول الأرض المقدسة بعد طلبهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل الله، فكان شأنهم دائماً الحيدة عن الحق والصد عن سبيل الله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ [البقرة: 246-247].
وشاء الله بإرادته الكونية الفاعلة إنهاء الحالة القومية الاصطفائية والتمهيد للعالمية الإنسانية الشاملة انطلاقاً من بناء الأمة القطب، واستبدل مفهوم الشعب المختار بمفهوم الأمة والرسول القومي بالرسول المبعوث رحمة للعالمين، وعلى هذا الأساس جاءت حاكمية الكتاب على حساب الحاكمية الإلهية المباشرة والاستخلافية في إطار جملة من السنن الإلهية الحاكمة، ومن بينها مما تعلق بهذا السياق سنة الاستبدال: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38] ، وسنة التداول: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]، والذين تم استبدالهم أو جرى التداول معهم هم بنو إسرائيل، جاءت هذه الحاكمية لتشكل مدخلاً مهماً من مداخل التفعيل للأمة الخاتمة، وعليه فإن حاكمية الكتاب كانت في إطار التدرج المرحلي لمفهوم الاستخلاف، والنظر الإلهي في استحقاقه وفقاً لقواعد الامتثال المبنية على الإرادة البشرية الاختيارية، ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
إن هذه القراءة في الإطار التاريخي لمفهوم الحاكمية يعطي المسلم قاعدة ينطلق منها في سبيل تحقيق مقاصد منهجه التوحيدي الذي كان محور حياة عهود الخيرية وكان له آثاره، فكان بحق منهج حياة ومرجع عامة لا خاصة، إننا بحاجة اليوم إلى إدراك أهمية مفهوم التحاكم إلى شرع الله وجعل الشريعة محوراً تطبيقياً في حياة الناس والمجتمع، إلا أن الإشكالية الحقيقة الكامنة حول هذا المفهوم هي التعسف في توظيف المفهوم وعدم الإدراك بأن الوحي في الكتاب والسنة الصحيحة والسيرة العملية إنما جاء بقيم هادية ضابطة لمسيرة الحياة في شعبها المتعددة، ومنها إدارة مسيرة الحكم وكيفية اختيار الحاكم، أو إدارة شؤون الحكم، فهي قيم ومرجعيات ومبادئ وإطار، وليست أنظمة وبرامج، وعليه فإن دور أصحاب الخطاب الإسلامي أن يجعلوا هذه القيم والمرجعيات في إطار أنظمة وبرامج واستراتيجيات مستقبلية تكون ثمرة للجهد والاجتهاد والتفكير في إطار المنظور الحضاري الإسلامي، فحاكمية الكتاب هي الالتزام بقيمة في الحكم والتعامل والسلوك وممارسة الأنشطة الحياتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي الضمانة التي تخرج المجتمع الإنساني من كل أزماته لو أحسن تسويقها منهجياً وفكرياً علمياً وعملياً، ولا نحتاج أن ندلل حسياً وواقعياً على الأزمات التي سببتها حاكمية البشر، في إطار المناهج الوضعية التي حاولت تأليه الإنسان، وجعل عقله مرجعاً رئيساً بعيداً عن المرجعية الإلهية المطلقة، فكان عقله محضن توليد ذاتي للمفاهيم، ولا يخفى التأثر في إطار هذه المنهجية بالأغراض والأهواء الشخصية والمقاصد الضيقة، فكان المآل ما رآه ويراه الجميع من أزمات إنسانية وسياسية واجتماعية واقتصادية، عجز الإنسان بكل وسائله العلمية والتقنية أن يخرج منها، لقد جعل الله لنا طريق هداية لا يمكن أن تتحقق الهداية إلا به، قال تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، والسياق هنا حاكم على المعنى، فالصيغة اللفظية فيها استفهام إنكاري لمن قصد حكم الجاهلية، وكل ما خالف حكم الله فهو من أمر الجاهلية، وقد أحسن من جعل الجاهلية وضعاً وصفة وليس حقبة زمنية، والاستفهام الثاني جاء إنكارياً كذلك مضمناً معنى النفي، تقديره لا أحسن من الله حكماً لمن أدرك قيمة هذا الحكم وأثره النفسي والآفاقي.
لقد كان الثورات المعاصرة ذات رؤى تغييرية واضحة وجلية، ولا يمكن للإنسان العاقل أن يقف موقف المعارض منها طالما أنها تدور في إطار المطالب والحاجات الإنسانية الضرورية، ومجاوزة الأزمات، إلا أنه في ظني أنها قد تعجلت التغيير قبل أوانه، فإن التغيير المجتمعي الجمعي لا يمكن أن يتحقق إلا بالتغيير النفسي، نعم قد تتغير الحكومات ويتغير الحكام، ولكن هل تضمن الثورات تغيير النفوس وما اعتادت عليه من الخبث والفساد الذي تطبعت به وأضحى مألوفاً عندها، لقد منحنا الله عز وجل الضمانة التي يمكن من خلالها تحقيق التغيير المنشود بما يتوافق مع مقاصد الشارع ومقاصد الناس، لو أننا فقهنا مراد الله من خطابه وقرأناه قراءة تدبر وتفكر وتفهم، قال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40-41]، فالنصر والتمكين مرتبطان بشرط يمثل مراداً إلهياً، إنه إعلان التوحيد ونشره، وإقامة شعائر الله وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة المجتمع، بهذا الفهم يمكننا أن نؤصل لقضية تحكيم الشريعة وحاكمية الكتاب.
وقد يطرأ في إطار هذا التأصيل ما يجعل الآخر ممتنعاً عن تبني المفهوم أو على الأقل متردداً في قبوله، ومرجع ذلك أمران:
الأول: ما يسمى بحقوق الإنسان، فيجعلون من عوائق تطبيق الشريعة وتحكيمها أنها تتعارض مع حقوق الإنسان، إلا أنه قد غاب عنهم بحكم بعدهم عن منهج الله كما يقول بعض الباحثين أن معرفة الوحي في الكتاب والسنة والسيرة العملية إنما جاءت بقيم ضابطة لمسيرة الحياة في ميادينها المختلفة، وفي مقدمتها وعلى رأسها حقوق الإنسان، التي تعد من المهام والركائز الأساس في نظام الحكم وكيفية إدارة شؤون الناس، ذلك أن عقيدة التوحيد التي يستند عليها المنهج تقتضي نسخ الألوهيات، والمساواة بين الخلق، ونزع القدسية عن آراء الناس، وإخضاعها للنقد والمراجعة، والإنسان في الإسلام مكرم بأصل خلقه، بغض النظر عن معتقده ولونه وجنسه، والتفاضل بينهم إنما يقاس بمقياس النفع والعطاء والتقوى، وقد مارس الإنسان بموجب ما ادعاه في نظريات حقوق الإنسان الوضعية مناهج متعددة، كلها جعلته يقع في عبودية الإنسان، ولا يمكن تخليصه منها إلا بإعلان التوحيد وتحرير الإنسان من كل العبوديات الأرضية، وجعله دائراً في إطار عبودية واحدة هي عبوديته لله سبحانه.
الثاني: حرية الاختيار، وهذه في حقيقتها شكلت محور منهاج النبوة، فرسالة النبوة ومعركتها الحقيقية تكمن في تحرير وخلاص الإنسان واسترداد حريته وكرامته من الطواغيت، لذلك كانت قولة الأنبياء جميعاً، ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59]، ولا يظنن ظان بأن الإسلام وخطابه ومنهاج النبوة إنما جاء ليكبل الناس بأحكام وشرائع شاقة، وإنما هي أحكام لجعل الإنسان عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً، وحتى هذا المقصد لا يتجاوز من حيث الأصل القيمة الاختيارية عند الإنسان، وهو حر في اختيار ما يعتقد وما يتبنى من مناهج وأفكار وفقاً لقاعدة اللاإكراه، ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]، وعليه فإن الضمانة في ترك الاختيار للإنسان، والمنهج الإلهي يضمن حريته وحقوقه.
إن التغيير المنشود فيما نعتقد ونظن لن يكون تغييراً ذا فائدة ترجى إلا إذا جعل في إطار حاكمية الكتاب والشريعة الإلهية الخالدة، إلا أنه يستلزم لتحقيق ذلك كله، القيام على مقتضيات الخطاب من التلاوة والتدبر والتفقه والتفكر والتنزيل والتعليم والتزكية والتربية والتكوين النفسي والاجتماعي، والعمل على اتخاذ كل الوسائل الممكنة في إطار إحياء فروض الكفايات التي تكفل المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية للمجتمع الإنساني، ولن يكون ذلك إلا بتكاتف الجهود والعمل على إعادة تشكيل عقلية المسلم ومنهجتها وفقاً للمنهج الرباني الحق، وجعل هذا العقل عقلية منتجة فاعلة، تخرج المسلم المعاصر من إطار المفعول الذي دار معها قروناً وعقوداً من الزمان، جعله ساكناً لا يتحرك، إلى إطار الفاعل الحارث الهمام، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/31889/#ixzz1Mv9e50pO
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.