قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
قال ابن كثير - رحمه الله -:
"أيْ: ومن سلك غير طريق الشَّريعة التي جاء بها الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصار في شقٍّ والشرع في شق، وذلك عن عمدٍ منه بعدما ظهر له الحقُّ، وتبيَّن له واتَّضح، وقوله: ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، هذا ملازمٌ للصِّفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنصِّ الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمديَّة فيما علم اتِّفاقهم عليه تحقيقًا؛ فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفًا لهم، وتعظيمًا لنبيِّهم"؛ اهـ[1].
قال شيخ الإسلام: "إن كلاًّ من الوصفين يقتضي الوعيد؛ لأنه مستلزِمٌ للآخَر، كما يُقال مثل ذلك في معصية الله والرسول، ومُخالفة القرآن والإسلام، فيقال: مَن خالف القرآن والإسلام، أو مَن خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النَّار، ومثله قوله: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]، فإنَّ الكفر بكلٍّ مِن هذه الأصول يَستلزم الكفر بغيره، فمن كفر بالله كفر بالجميع، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرُّسل، فكان كافرًا بالله؛ إذْ كذب رسله وكتبه، وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرًا.
وكذلك قوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 71]، ذمهم على الوصفين، وكلٌّ منهما مقتضٍ للذم، وهما متلازمان؛ ولهذا نهى عنهما جميعًا في قوله: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42]؛ فإنه من لبس الحق بالباطل فغطَّاه به فغلط به، لزم أن يكتم الحق الذي تبيَّن أنه باطل؛ إذْ لو بيَّنه زال الباطل الذي لبس به الحق، فهكذا مشاقَّة الرسول واتِّباع غير سبيل المؤمنين، ومن شاقَّه فقد اتبع غير سبيلهم، وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقَّه أيضًا؛ فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد، فدلَّ على أنه وصف مؤثِّر في الذمِّ، فمَن خرج عن إجماعهم فقد اتَّبع غير سبيلهم قطعًا، والآية توجب ذمَّ ذلك"[2].
• والمراد بقوله: ﴿ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 115] هم المذكورون في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ [التوبة: 100].
قال الشوكانيُّ - رحمه الله -:
ومعنى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ الذين اتَّبَعوا السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، وهم المتأخِّرون عنهم من الصحابة فمَن بعدهم إلى يوم القيامة"؛ اهـ[3].
قال السَّعدي - رحمه الله -:
"﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾؛ بالاعتقادات والأقوال والأعمال؛ فهؤلاء هم الذين سَلِموا من الذمِّ، وحصل لهم نهاية المدح، وأعظم الكرامات من الله؛ اهـ[4].
• وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
قال السعديُّ - رحمه الله -:
"فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان؛ لأن قولهم: ﴿ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ﴾ دليلٌ على المشاركة فيه، وأنهم تابعون للصَّحابة في عقائد الإيمان وأصوله، وهم أهل السُّنة والجماعة، الذين لا يَصْدق هذا الوصف التامُّ إلا عليهم"؛ اهـ [5].
• وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ [البقرة: 137].
قال ابن كثير - رحمه الله -:
"﴿ فَإِنْ آمَنُوا ﴾؛ يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ﴿ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ يا أيُّها المؤمنون، والإيمان بجميع كتب الله ورسلِه، ولم يفرِّقوا بين أحدٍ منهم، ﴿ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾؛ أيْ: أصابوا الحقَّ، وأرشدوا إليه"؛ اهـ[6].
فقوله ﴿ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ هذه هي عن السَّلفية، الإيمان بما آمن به الصَّحابة - رضي الله عنهم - ﴿ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾، فلا هداية إلا بما آمن به الصَّحابة - رضوان الله تعالى عليهم.
وهنا نكتة لطيفة: وهي قوله: ﴿ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ ولم يقل: "آمنت به"، فدلَّ ذلك على صحَّة ما آمن به الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين.
قال شيخ الإسلام: "فأمرَهم بعد أمره لهم باتِّباع ملة إبراهيم أن يقولوا: آمنَّا بالله وما أُنزل إلينا، إلى آخر الآية، ففي ذلك الإيمانِ بما أنزله الله، وما أُوتِيَه النبيُّون من ربِّهم، والإيمانِ بجماعتهم من غير تفريقٍ بينهم، وهو الإيمان ببعضٍ والكفر ببعض، كما قال عن الكفَّار؛ حيث قالوا: ﴿ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 150]، وكان نصيب خالصة الأمَّة من ذلك أن تؤمن بجميع نصوص الكتاب والسُّنة، لا تُفرِّق بين النُّصوص، فتتَّبع بعضها وتترك بعضها، فبذلك يصيرون من أهل السُّنة، دون الذين تركوا السُّنن والآثار، أو بعضها، أو تمسَّكوا ببعض آيِ القرآن دون بعض، من أصناف المبتدعة".
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((خير أمَّتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه))[7]. وفي رواية لمسلمٍ[8]:
سئل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ الناس خير؟ قال: ((قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته)).
أيِ: السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، ومن سلَك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأُمَّة، وهم المُرادون بالحديث، وأمَّا من خلط في زمنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإن رآه وصحبه، أو لم يكن له سابقةٌ ولا أثَر في الدِّين، فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأوَّل مَن يفضلهم[9].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] "تفسير القرآن العظيم" (1/ 568).
[2] "مجموع الفتاوى" ( 19/ 193 - 194).
[3] "فتح القدير" (2/ 398).
[4] "تيسير الكريم الرحمن" (2/ 281).
[5] "تيسير الكريم الرحمن" (5/ 209).
[6] "تفسير القرآن العظيم" (1/ 193).
[7] أخرجه البخاري (26529) ومسلم (2533).
[8] (211/ 2533).
[9] "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجَّاج", ط دار إحياء التراث العربي - بيروت (3/ 138).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/32228/#ixzz1NjAkMKzt
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.