تنص المادة الثانية من الدستور المصري على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهذه المادة تشكل نقطة ارتكاز هامة للكثير من التحركات الإسلامية والاجتماعية، وقد استند إليها الكثيرون في الطعن بعدم دستورية عدد من القوانين على أساس مخالفتها للشريعة الإسلامية، وكذا استند إليها الدفاع في الكثير من القضايا المرتبطة بالتيار الإسلامي، على أساس أن ما يطالب به هؤلاء هو نوع من الدعوة لتطبيق الدستور.
وبديهي أن ذلك كان يشكل نوعاً من المضايقة للسلطات المصرية، ولكنها لم تفكر قط في إلغاء تلك المادة أو تخفيفها أو تغييرها، وكانت تلك المادة في أصلها وفقاً لدستور عام 1971 تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع.
معركة الألف واللام:
وقام عدد من النواب في برلمان 1971 – 1976 بالمطالبة بإدخال حرفي الألف واللام عليها فيما عرف في ذلك الوقت بمعركة الألف واللام، وكان هؤلاء النواب ممن ينتمون إلى الاتجاه الإسلامي الشعبي العادي دون أن تكون لهم ارتباطات بالجماعات الإسلامية أو الإخوان المسلمين، بل إن بعضهم كان ينتمي إلى الحزب الحاكم في ذلك الوقت " الاتحاد الاشتراكي العربي " وبعد ذلك عقب إطلاق حق تكوين المنابر داخل الاتحاد الاشتراكي العربي عام 1975 ثم الأحزاب فيما بعد كان عدد منهم إما مستقلين وإما في الحزب الحاكم "حزب الوسط ثم حزب مصر ثم الحزب الوطني الديمقراطي".
ولعل أبرز الأسماء في ذلك الصدد كان الأستاذ محمود نافع (عضو مجلس الشعب عن دائرة ميت غمر، ونقيب المعلمين في محافظة الدقهلية) ومعه عدد آخر من النواب مثل الدكتور إسماعيل معتوق والأستاذ عبد الفتاح أبو علي وغيرهم. وقد نجح هؤلاء في الحصول على توقيع 120 نائباً من برلمان 1971 – 1976 ثم عرض الموضوع على مجلس الشعب فوافق عليه ثم طرحه السادات للاستفتاء العام كنوع من إرضاء الناس وأدخل في نفس الاستفتاء عدد من الموضوعات الأخرى التي أراد تمريرها من خلال وضعها في سلة واحدة مع التعديل الخاص بإضافة الألف واللام.
وقد تم تمرير الموضوع عام 1979. ومنذ ذلك الوقت فإن تلك المادة تعرضت للنقد والهجوم من دوائر مسيحية في المهجر والداخل، وكذا من العلمانيين المصريين، على أساس أنها نوع من إرساء الدولة الدينية، أو هدر لحقوق المواطنة وغيرها من الأمور.
تجدد الحديث عن تلك المادة بمناسبة الحديث عن تعديل الدستور الذي بدء قبل انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2005 ثم تصاعد الحديث عنها بعد تقديم الحكومة لعدد من مشروعات القوانين الخاصة بتبديل مواد بالدستور تتصل بالإشراف القضائي، وشروط الترشيح للرئاسة وطريقة الانتخابات وإلغاء منصب المدعي الاشتراكي وغيرها.
ولقد حدثت مفاجأة من النوع الثقيل، عندما تقدم المتحدث الرسمي باسم الكنيسة المصرية الأنبا مرقص بطلب بتعديل المادة الثانية من الدستور. وطالب الرجل – المتحدث باسم الكنيسة – أن تكون الشريعة الإسلامية هي أحد مصادر التشريع لكي تكون هناك مساحة لمصادر أخرى، معتبراً أن النص على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع فيه انتقاص من حقوق الأقباط.
وفي الحقيقة فإن مطالب المسيحيين المصريين بتغيير تلك المادة قد أثيرت قبل إضافة حرفي الألف واللام، عام 1979.
ففي عام 1977 طالب مؤتمر الآباء الكهنة المنعقد في الإسكندرية 17 / 1 / 1977 بعدد من المطالب كان على رأسها إلغاء تلك المادة، لأنها في رأيهم تستبعد المواطنين الأقباط من المشاركة في الحياة حتى لا تطبق عليهم شريعة غيرهم، وفي يناير 1979 قدم بطرس غالي الوزير السابق ورئيس جمعية الآثار القبطية تقريراً رفعه إلى المسئولين ذكر فيه أن مظاهر التمييز ضد المسيحيين هي أن المشروع المسلم لم يضع في اعتباره عندما وضع الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع أن المسلمين والأقباط يرتبطون بقيم مشتركة وثقافة مشتركة وأن وجود المادة بالدستور يعني اتجاه الدولة اتجاهاً دينياً غير مأمون العواقب.
أقباط المهجر يصطادون في الماء العكر:
ما أن ألقى الأنبا مرقص المتحدث الرسمي للكنيسة بتصريحاته تلك حتى حدث رد فعل سريع لدى الأوساط الإسلامية والمسيحية والعلمانية على السواء.
فعدد من أساتذة جامعة الأزهر وجامعات أخرى وعدد من المفكرين والكتاب والسياسيين الإسلاميين أصدروا بياناً اعتبروا فيه أن الاقتراب من تلك المادة خط أحمر، وفي الإطار المسيحي التزمت الكنيسة الصمت إلا أن عدداً كبيراً من وجهاء المسيحيين رفض هذه المسألة، وعبر النواب الأقباط، ومعظمهم ينتمي إلى الحزب الوطني الحاكم عن رفضهم لتصريحات الأنبا مرقص، واعتبروا تلك التصريحات مجرد رأي شخص لا يعبر عن اتجاه غالبية الأقباط في مصر، وأنهم متمسكون ببقاء تلك المادة على وضعها الحالي. وقال النائب إدوارد غالي الذهبي رئيس لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشعب أن الأقباط لا يخافون من الشريعة الإسلامية طالما تم تطبيقها بشكل سليم، كما قالت النائبة جورجيت كليني إن الأقباط يحتكمون لقانون الأحوال الشخصية الخاص بهم.
على الجانب الآخر فإن أقباط المهجر انتهزوا الفرصة – وهم معروفون بعلاقات بعضهم بدوائر صهيونية وأمريكية، وافتعلوا ضجة هائلة. مايكل منير رئيس الجمعية القبطية المصرية في الولايات المتحدة الأمريكية أجرى استفتاء على شبكة الإنترنت زعم أنه شارك فيه أقباط من خارج مصر وداخلها، وقال: إن نتائج الاستفتاء تقول أن 99 % من أقباط المهجر يؤيدون تغيير تلك المادة، و75 % من أقباط مصر قالوا نفس الشيء وانتهز مايكل منير ومن على شاكلته الفرصة لعزف الاسطوانة التقليدية حول اضطهاد الأقباط في مصر، والمطالبة بنسبة من الوزراء وأعضاء مجلس الشعب وقيادات الجيش والشرطة والخارجية، بل وقصر الترشيح في بعض الدوائر على الأقباط فقط مثل شبرا بالقاهرة، وأسيوط والمنيا وبعض دوائر الإسكندرية.
وبديهي أن المسألة لم تلق استجابة حكومية، وكان من البديهي أن المتحدث الرسمي للكنيسة ومن سمحوا له بذلك يعرفون ذلك ومن ثم فإن تفسير التوقيت يعني أنها محاولة للحصول على مكاسب في اتجاهات أخرى بالضغط على الحكومة في هذه النقطة، وهو سلوك برعت فيه الكنيسة المصرية في السنوات الأخيرة.
أسباب مختلفة بين العلمانيين والمسيحيين:
العلمانيون في معظمهم يعادون الشريعة الإسلامية؛ لأنهم ينطلقون من مفاهيم تغريبية ترى أن فصل الدين عن الدولة هو القاعدة الأصلية، وأن مرجعية الشريعة الإسلامية أمر لا يتفق مع المساواة في المواطنة، ولا يتفق مع روح العصر، ولا مع قيم العولمة، ولا مع التطور الديمقراطي المزعوم، ويجب أيضاً أن نفرق هنا بين أنواع العلمانيين؛ فالليبراليون واليساريون بحكم تكوينهم الفكري غالباً ما يكونون علمانيين، أما القوميون فمعظمهم غير علمانيين، ومن ثم فإن العلمانيين منهم هم فقط الذين يريدون إلغاء تلك المادة من الدستور، أما غير العلمانيين من القوميين فيعتبرون الشريعة الإسلامية إحدى ركائز القومية العربية، أما غير المسلمين فالمسألة بالنسبة لهم مُركّبة، فهناك من المسيحيين المصريين من يتمسك بالشريعة الإسلامية باعتبار أن ذلك جزء من تراثهم الحضاري، فهم على حد قول السياسي المسيحي المصري المعروف مكرم عبيد " مسيحيون ديناً، مسلمون وطناً "، وقد كتب الأستاذ رفيق حبيب وهو ابن قس مصري معروف، يدافع عن الشريعة الإسلامية.
وفي الحقيقة فإن بحثاً أجراه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة عام 1985 تحت إشراف الدكتور أحمد المجذوب رئيس المركز في ذلك الوقت أفاد أن 98 % من المسلمين و68 % من المسيحيين يوافقون على تطبيق الشريعة الإسلامية؛ بل والحدود الإسلامية. وهكذا فإن مطلب الشريعة الإسلامية كمرجعية هو مطلب مصري عام، وصحيح أن أقباط 1985 غير أقباط 2007 فقد مرت كثير من المياه تحت الجسر، وتغيرت أمور كثيرة بسبب الاستقطاب الطائفي، إلا أن القدر المتيقن منه أن هناك نسبة لا بأس بها من المسيحيين المصريين لا تزال على موقفها من مرجعية الشريعة الإسلامية.
الشريعة والاستقلال الوطني:
وفي الحقيقة فإنه من الممكن أن نقول ببساطة: إن الذين يقفون مع المشروع الوطني المناهض لأمريكا وإسرائيل من إسلاميين وقوميين بل ويساريين ومسيحيين هم مع مرجعية الشريعة الإسلامية على أساس أن الشريعة الإسلامية هنا تحقق نوعاً من الممانعة الحضارية، وتحقق نوعاً من الاستقلال، وتعني عدم الخضوع الحضاري والتشريعي والثقافي للحضارة الغربية والأمريكية والصهيونية، وأن الذين يقفون مع المشروع الأمريكي الصهيوني من كل الاتجاهات السياسية هم ضد مرجعية الشريعة التي تعطي الحق لغير المسلم للتحاكم إلى قانونه الخاص " في الأحوال الشخصية مثلاً كما هو معمول به في مصر "، إلا إذا طلب هو غير ذلك.
وبديهي أن مطلب مرجعية الشريعة هو مطلب شعبي عام، لا تصل قضية أخرى إلى القدر الذي يتمتع به من التأييد، ومن ثم فإن الليبراليين والديمقراطيين – إن كانوا كذلك حقاً – فإن عليهم احترام اختيار الشعب، فإذا كانت الشريعة واجب شرعي بالنسبة للمسلم، فإنها – حتى بمقاييس الليبرالية – مطلب شعبي، وما دام الشعب في رأيهم مصدر السلطات فلماذا لا يحترمون تلك الرغبة الشعبية؟.
منطق دعاة الشريعة:
إن منطق دعاة المرجعية الإسلامية متماسك؛ فهو أولاً مطلب شعبي عام، وليس فيه تمييز؛ لأننا لو سألنا مثلاً المسيحيين المطالبين بإلغاء المادة الثانية من الدستور أو إلغاء مرجعية الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع هل يقبل هو ذاته أن يخضع للزواج المدني بعيداً عن الكنيسة أو أن يقيم علاقاته الأسرية والاجتماعية بمعزل عن الدين لرفض فوراً، فهل يعني ذلك أن تتخلى الأغلبية عن شريعتها فيكون ذلك ديمقراطياً، وتتمسك الأقلية بشريعتها الدينية في نفس الوقت؟
وكذلك فإن الداعين إلى المرجعية الإسلامية هم دعاة استقلال وطني وتميز حضاري، وهو أمر مطلوب ومرغوب في ظل التحدي الصهيوني الأمريكي، ولعل دراسة تاريخ تسلل التشريع الأجنبي إلى مصر يؤكد هذه الحقيقة، فقد بدأ هذا التسلل مع النفوذ الاستعماري بدءاً من عام 1840 حين هُزم محمد علي، وأصبح للدول الأوروبية نفوذ في مصر ثم زحف الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة والأجنبية والقنصلية، ثم تسلل مدارس التعليم القانوني الأجنبي في عصر سعيد وإسماعيل، ثم مع الاحتلال الإنجليزي ثم الاحتكام تماماً إلى القانون الغربي وإزاحة القوانين الإسلامية تماماً.
وهكذا فإنه تم استنبات التشريع الأجنبي في البيئة المصرية عملياً ونظرياً وتعليمياً بفعل الضغط والنفوذ الأوروبي وطلائعه الأولى من الأفّاقين والمرابين والمقامرين، وما زالت المدارس العلمانية التي تطالب بإلغاء مرجعية الشريعة الإسلامية تحقق نفس الخطة الغربية، وما زالت المرجعية الإسلامية هي مطلب حركة التحرر الوطني المصري منذ بدايتها وحتى الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.