الحروب الصليبية

الخميس، 22 ديسمبر 2011

صميم الكتاب وبيان تبويبه وتفصيله د/ عباس أرحيلة


أولا: تصميم الكتاب وقسمته


لفظ التصميم اصطلاح مستحدث، ويبدو أن الأصل فيه أن يضع الباحث خطة لبحثه ويُصَمِّمُ على اتباعها، وكأنه يَمضي في تنفيذها دون أن يُصغي إلى رأي مخالف وكأنه في حالة صَمَم!

وقديما أطلقوا اصطلاح: القسمة، وجعلوها رأسا من الرؤوس الثمانية المقررة في المقدمة، وأرادوا بها ترتيب مواد الكتاب وتقسيمه إلى أبواب وفصول وغيرها؛ حسب ما يقتضيه الموضوع من تفصيلات.


 فالقسمة:«هي بيان أجزاء العلم وأبوابه ليَطلُبَ المتعلم في كل باب منها ما يتعلق به، ولا يُضيِّعُ وقته في تحصيل مطالب لا تتعلق به»، كما في أبجد العلوم [1/87].

فمما يرتبط بمنهج تأليف الكتاب، جمع مادته العلمية وضبطها، ثم الشروع في تحديديها وتبويبها وتفصيلها؛ لبيان ما اشتمل عليه الكتاب من موضوعات وقضايا. وكان للمؤلفين حِرْصٌ على تنسيق مواد الكتاب وتقسيم محتوياته حسب ما تقتضيه طبيعة الموضوع، وما تتطلبه من ترابط وانسجام. أو«ضم كل جوهر نفيس إلى شكله، وتأليف كلِّ نادرٍ من الحكمة إلى مثله"، على حد تعبير الجاحظ في رسالة»، في الحنين إلى الأوطان[2/383]. أي بضمِّ كلِّ إلْفٍ إلى إلفِهِ، وكل صِنْفٍ إلى صنفه؛ فيتحقَّقُ التأليف والتصنيف والانسجام بين جوانب الموضوع المدروس.

ووجدتُ ابن الباذش ( أحمد بن علي 540 هـ) يقول في مقدمة كتابه الإقناع في القراءات السبع إنه استخار الله تعالى « في ضمِّ الشكل إلى شكله، وجمع ما تشتَّت من شمله، وردِّ النازح إلى أهله» [ص49].

ووجدت خير من شخص مسألة تصميم البحث في القديم الجاحظ فيما نقله عنه ياقوت الحموي في معجم الأدباء:
« وقد حُكِيَ عن الجاحظ أنه صنف كتابا وبوَّبَه أبواباَ، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المُصنِّف كالمُصوِّر وإني قد صنفتُ في تصنيفي صورةً كانت لها عينان فعوَّرْتَهُما، أعمى اللهُ عينيك، وكان لهما أذنان فَصَلَّمْتَهما، صَلَّمَ اللهُ أذنيك، وكان لهما يدان فقطَعْتهما، قطع الله يديك، حتى عدَّ أعضاء الصورة، فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب عليه عن المعاودة إلى مثله»[1/13 – 14].

ثانيا: التبويب بنشأة التأليف في الثقافة الإسلامية


لاحظ د. فخر الدين قباوة أن سيبويه ( نحو 175 هـ) قد «وزع مواد كتابه على أكثر من 500 باب متوالية، تجد بين بعضها علاقات واضحة، في حين تَفتقِدُ أبوابٌ أخرى مثل تلك العلاقات»، واعتبر هيكل بحثه بدائيا لأنه لم يحاول - في نظره - أن يضم «الأبواب المتقاربة تحت عناوين أعم وأوفى. وهذا الأسلوب الأفقي لهيكل الموضوع بدائي، شبيه بالبيوت البدوية في الصحراء على نسق واحد، مع شيء من الاضطراب، وهو طابع المنهجية في التصنيف لدى أكثر المؤلفين العرب، سار عليه جمهورهم حتى نهاية القرن السابع».

وهذا قول مردود على صاحبه، فقد شط في حكمه هنا وأراد أن يُحاكم كتاب سيبويه بما استقر عليه الرأي عند المتأخرين في تصنيف أبواب النحو. وأتى بادعاء لا يُقره عليه أحد، فلا يمكن لأحد أن يدعي أن منهجية التأليف بقيت لدى أكثر المؤلفين العرب على نسق بدائي واحد، وسار عليه جمهورهم حتى نهاية القرن السابع. لا يصح هذا من عالم عرف المؤلفات العربية وحقق كثيرا منها.

وعلماء الحديث والفقه لهم الباع الأكبر في مجال التبويب في تاريخ التأليف عند المسلمين، مما لم يتحقق في أي تأليف آخر. والحق أن المُحَدثين كانت لهم عناية خاصة بالتبويب، وظهرت لهم فيه براعة وذكاء ينمان عن استيعاب لموضوعات الأحاديث، قبل فرزها وتحديد مجالاتها وقضاياها. وقد حاول الكثير منهم أن يُراعي الفقه في تبويبه.

وموطأ الإمام مالك (179هـ) رتبه على أبواب الفقه مبتدئاً بالعبادات فالمعاملات.

والإمام البخاري (256 هـ) في صحيحه أطلق على أسماء الأبواب العامة اسم كتاب، وترجم لكل كتاب بالأبواب المفصلة، والإمام مسلم ( 261 هـ) في صحيحه  يجمع ما يتعلق بالباب في موضع واحد، دون أن يكتب تراجم أبوابه. والترمذي (279 هـ) رتب جامعه على أبواب دون فقه فيها، بخلاف النَّسائي (303 هـ) الذي راعى الفقه في أبواب سننه شأن البخاري.

وقد روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أن إسحاق بن راهويه أخذ كتاب التاريخللبخاري، فأدخله إلى عبد الله بن طاهر فقال: أيها الأمير ألا أريك سحرا؟ قال: فنظر فيه عبد الله بن طاهر، فتعجب منه، وقال: لست أفهم تصنيفه [ 2/7 ].
        ونجد في كتاب الألفاظ، الكتابة والتعبير لابن مَرزبان الباحث (330 هـ) أن أهل فقه اللغة يقولون في وصْف الكتاب:«هذا كتابٌ جمعناه ضروباً، ألفناه فُنوناً، وضعناه أجناساً، فصَّلناه فصولا، فرَّعناه أنواعاً، صنفناه أصنافاً، بوبناه أبواباً. هذا كتاب جمعناه من الفصول المتسقة، والشذور المنتظمة، والألفاظ المُختلفة، والمعاني المُتفقة، من كل كلمة نادرة، وشوارد مؤتلفة، وفرائد مُستَعذَبَة، من الفوائد وفرائدها، والشوارد وقرائنها…»[ص46 – 47 ].

ثالثا: هاجس التبويب لدى المؤلفين


كثيراً ما نجد المؤلفين يعتذرون عما يمكن أن يجده القارئ من اضطراب في بناء البحث وتصميمه؛ وهذا يدل على وعيهم بتصميم البحث وبنائه.

يقول الهروي (481 هـ) في مقدمة كتابه منازل السائرين:«ثم إني رتبتُه لهم فصولا وأبوابا، يُغني ذلك الترتيبب عن التطويل المؤدي إلى الملال، ويكون مندوحة عن التسآل»[ ص 3].

ويبين أبو حامد الغزالي (505 هـ) أهمية التبويب في مقدمة كتابه المستصفى من علم الأصول، حين يقول:«وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب، يُطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم، ويُفيده الاحتواء على جميع مسارح النظر فيه؛ فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ومبانيه، فلا مَطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه»[1 /4].

وترى الزمخشري (538 هـ) في أساس البلاغة يقول:«وقد رُتِّبَ الكتاب على أشهر ترتيب متداوَلاً، وأسهلِه مُتناوَلاً، يَهجُمُ فيه الطالب على طِلبَتِه موضوعةً على طَرَف الثُّمام وحَبْل الذراع، من غير أن يَحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصَلُ إلا بإعمال الفكر إليه، وفيما دقَّق النظر فيه الخليل وسيبويه[ص. ل]. فهو بتبويبه للكتاب يجعل موضوعاته سهلة التناول قريبة إلى القارئ.

ومنهم من يسمي التصميم فهرستاً، كما ورد عند السيوطي في المزهر، حيث قال:«وهذا فهرست أنواعه» [ 1/1 ].

والنظرة إلى مقدمات الكتب، بشكل عام، تؤكد أن المؤلفين يُعنون بوضع خِططٍ تفصيلية لمحتويات كتبهم، وقد تحمل الخطط مصطلحات: الكتب، الأجزاء، الأقسام، الأبواب والفصولوالحدود، وغيرها من المصطلحات. ( ويلاحظ أن الجاحظ قد أطلق اسم مصحف على الجزء من الكتاب، كما فعل في كتابه«الحيوان» ).

وقد يُبوَّبُ الكتاب في ضوء عنوانه، وتوضع لأبوابه وفصوله أسماء خاصة؛ فترى ابن عبد ربه (321 هـ) يقول في مقدمة العقد الفريد:«وسميتُه كتاب العقد الفريد لما فيه من مختلِف جواهر الكلام، مع دِقَّة السَّلْك وحُسن النظام، وجزَّأْتُه على خمسة وعشرين كتابا (…) وقد أفردتُ كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد، فأولها: كتاب اللؤلؤة في السلطان، ثم كتاب الفريدة في الحروب»[ 1/5 ].

وهذا أحمد المقري (1041هـ) لما أسمى كتابه أزهار الرياض في أخبار عياض؛ قسَّم كتابه على أسماء الورود، لتوافق التسمية معناه؛ لأنه جمَع أزاهرَ ذات ألوان، من ورد وأُقحوان، وبَهار، عَرفُه ذو انتشار…

«وأجريتُ جداولَ أنهار، من الحكايات لسقي هذه الأزهار. وقد أفصح تُرجمان التراجم عن عدِّها وسَرْدها، وهي هذه الترجمة:

الأولى: روضة الورد، في أوَّلِية هذا العالِمِ الفرْد.

الثانية: روضة الأُقحوان؛ في ذكر حاله في المَنشأ والعُنفوان.

الثالثة: روضة البَهار، في ذكر جملة من شيوخه الذين فضْلُهم أظهرُ من شمس النهار».

إلى قوله:« فدونك أيها الناظر روضات الأزهار، وجنات تجري من تحتها الأنهار؛ أبوابُها ثمانية، وقطوفُها دانية، تَعطَّرَ منها نسيم الصَّبا بزهر الآداب، لم أُسبَقْ إلى مثلها فيما رأيت، وإنْ بعُدتُ فيها عن المَهيَع المطروق ونأيْت؛ والإنسان مُغرَمٌ بِبُنَيَّاتِ أفكاره»[ 1/16 - 17 ].

وتسمية أبواب الكتاب وفصوله بأسماء أخرى مما هو موجود في بعض الكتب، من ذلك، نجد الكِرماني ( أحمد حميد الله 429 هـ) أسمى أبواب كتابه راحة العقل أسورا، وجعل كل سُورٍ يشتمل على سبعة مشارع ( جمع مَشْرَع ).

فالكتاب في عرف المصنفين اسم لجملة من العلم مشتملة على أبواب وفصول ومسائل غالباً، والفصل اسم لجملة من العلم مشتملة على مسائل غالباً.

ومما يكشف هذا الوعي بتبويب البحث وتفصيله وبنائه ما أتى به الزمخشري (538 هـ) في الكشاف من تعليل وفوائد، حين تساءَل: ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سُوَراً؟ ولماذا بَوَّبَ المصنفون في كلِّ فنٍّ كتبَهم أبواباً موَشَّحَة الصدور بالتراجم؟ ومن فوائد التبويب التي ساقها: « أن الجنسَ إذا انطوتْ تحته أنواعٌ، واشتمل على أصناف؛ كان أحسنَ وأنبلَ وأفخمَ من أن يكونَ بياناً واحداً، ومنها أنَّ القارئ إذا ختَمَ سورَةً أو باباًً من الكتاب، ثم أخذ في آخر كان أنشطَ له وأهَزَّ لِعِطْفِهِ، وأبعث على الدرس والتحصيل منه، لو استمر على الكتاب بطوله، ومثَلُه المسافر، إذا علِم أنه قَطَع ميلاً أو طَوَى فَرْسخاً، أو انتهى إلى رأس بريد؛ نفَّسَ ذلك منه ونَشَّطَه للسير، ومن ثم جَزَّأَ القُرّاءُ القرآنَ أسباعاً وأجزاءً وعشوراً وأخماساً … وبذلك تتلاحظُ المعاني ويتجاوَبُ النظم»[1/219].

فمن فوائد التبويب أن تُفرد كل نوع وتُحدِّده، وأن تجعل الأشكال تتلاحق، وضروب النظم تتجاوب وتتناغم، ومن شأن ذلك تنشيطُ القارئ، وترغيبه في العلم، وتسهيل حفظه.

ففي القرن الثالث، مثلاً، نجد كلاًّ من الجاحظ (255 هـ) في الجزء الثالث من: البيان والتبيين، والإمام البخاري (256 هـ) في: صحيحه وابن قتيبة (276 هـ) في عيون الأخباريضعون اسم كُتُب لعناوين بعض الموضوعات.

ويلاحظ أن محتويات الكتب توضع في مقدمات الكتب وفي بداياتها عموماً مما أصبح شائعاً الآن، ويُعتقد أن هذا تقليد أوربي؛ وهو من تقاليد التأليف في الثقافة العربية. ومن الطريف أن المسعودي ( علي بن الحسين 346 هـ) خصص الباب الثاني من كتابه مروج الذهب لذكرِ ما اشتمل عليه كتابُه من الأبواب؛«لكي يقرُب تناولُها على مريدها»[ 1/19].

يقول الراغب الأصفهاني ( حسين بن محمد 502 هـ) في مقدمة محاضرات الأدباء:«وقد جعلتُ ذك حدوداً وفصولا وأبواباً، وذكرتُ جملة الحدود والفصول في أول الكتاب؛ ليسهُل طلب كل معنى في مكانه»[ 1/8 ].

ويقول علي بن ظافر الأزدي (623 هـ ) في نهاية مقدمة كتابه:« بعد تسمية الكتاب وتبويبه، وتنميق مقصده وترتيبه. أما الاسم:  فـغرائب التنبيهات على عجائب التشبيهات، ومقصود الكتاب ينحصر في ستة أبواب»[ ص 8 ].

ومما تجدر ملاحظته في مجال التبويب أنه لم تكن هناك عناية بالخاتمة إلا في كتب قليلة، كما في طوق الحمامة لابن حزم (456 هـ). والإشارات إليها قليلة، من ذلك ما جد فيإرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد لابن الأكفاني ( 749هـ)، وفي القرن العاشرعند عبد الوهاب الشعرني (973 هـ) - مثلا - يقول في مقدمة رسالته الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية:«ورتبتُها على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.