الحروب الصليبية

الخميس، 22 ديسمبر 2011

النسخة الأم في مجال التحقيق د/عباس أرحيلة

أولا: البحث عن النسخ وعن أصحها وأوثقها قبل ظهور الطباعة، كان اللجوء إلى النُّسّاخ والوراقين من أجل استنساخ الكتب والحصول عليها. وبعد ظهور الطباعة بدأ البحث عن المخطوطات لإخراجها من "مخطوطيتها"، وإخضاعها للطباعة. وهنا دعت الحاجة إلى البحث عن نُسَخِ الكتاب، وعن أصح تلك النسخ لاعتمادها في إخراجه. 


وبالبحث عن أصح النسخ وأوثقها، يبدأ الشروع في مقابلة النسخ لاستخلص أجودها، وأقربها إلى روح مؤلفها. وهذه أدق مرحلة وأشدها أهمية؛ لارتباطها بلحظة تقتضي الجرأة والحذر في ترجيح نسخة عن بقية النسخ المخطوطة المتوافرة. ويأتي الحديث عن هذا أثناء وصف النسخ المعتمدة وتناول منهجية التحقيق.

 ومع تحويل المدونات المخطوطة إلى كتب مطبوعة، بدأت معاناة قراءة المخطوطات في العصور الحديثة، وبدأ التفكير في وضع قواعد عامة لضبط النصوص وتوثيقها، والتغلب على مخلّفات النساخ فيها. وهذه القواعد، التي أصبح يُراعى الالتزام بها، أُطلق عليها قواعد التحقيق. وأصبحت الغاية أن يُقدم محقق النص نصّاً خاضعاً للضبط والتوثيق، وأقرب ما يكون إلى الحالة التي وُضِع عليه أول مرة.

ودور المحقق أن يقوم بضبط النص من المخطوط، بأمانة وإمعان وبرؤية علمية معاصرة، ويعمل على تيسير قراءته من خلال تصحيح هناته، وتوزيع فقراته، وإغنائه بالهوامش والشروح والتعليقات المناسبة؛ وأن يلتزم في ذلك بما تعارف عليه أهل التحقيق من قواعد.

بعد اختيار المخطوط الذي يُراد تحقيقه، وبعد الحصول على ما تأَتَّى من نُسخه؛ تبدأ عملية قراءتها، ومواجهة ما تحمله من إشكالات واختلافات بينها. وبعد دراستها  يتم اختيار النسخة التي تُتخذ – في العادة - أصلا يُعتمد في التحقيق؛ وهنا يأتي الحديث عن  النسخة التي اصطلح على تسميتها بالنسخة الأم.

 ثانيا:  المراد بالنسخة الأم

يُطلق مصطلح النسخة الأم  على النسخة التي تُجعَلُ أصلاً في التحقيق. وللفظ الأم – في هذا السياق - معنيان:

المعنى الأول: يُراد بالأم الأصل. ولما كانت الأم هي التي تلد، وهي الأصل في الزيادة والتكاثر؛ أُطلق لفظ النسخة الأم على تلك النسخة التي تتولَّدُ منها وتَتَنشَّأُ عنها بقية النسخ.

والمعنى الثاني: يُطلق لفظ الأم على الراية التي تقود الجيش، أي تلك التي  تأتمُّ بها كتائب الجيش في سيرها ومعاركها، وتُطلق على النسخة التي تأتمُّ بها بقية النسخ المساعدة على توثيق النص وضبطه.

وقد أطلق الجاحظ على مصطلح النسخة الأم مصطلح النسخة المنصوبة، وذلك أثناء الحديث عن خوفه من تحريف كتبه والتصرف فيها بإلحاق ما ليس منها، وذكَرَ أنه بادر"إلى تفريغ نسخ منها وتصييرها في أيدي الثقات والمستبصرين (…) ففعلنا ذلك وصيَّرناه أمانة في أعناقهم، ونُسخة باقية في أيديهم، ووثقنا بهم أمناء ومُستودَعين، وحفَظَةً غير مُضَيِّعين ولا مُتَّهمين (…) فإن شيب به شوْبٌ يُخالفه، وأُضيف إليه ما يلائمُه، رجعنا إلى النُّسخة المنصوبة، والأصول المخلدة عند ذوي الأمانة والثقة، واقتصرنا عليها" (1).

وفي "أساس البلاغة" للزمخشري (438هـ)، يقال: يرجع إلى مَنصِب صدق ونِصاب صدق وهو أصلُه الذي نُصِبَ فيه ورُكِّبَ… ومنه نِصاب السكين وهو أصله الذي نُصِب فيه(2).

وفي "المصباح المنير": قال الأزهري وابن فارس نِصابُ كل شيء أصلُه (3).

ونجد الجاحظ: أثناء حديثه عن أجزاء كتاب الحيوان، يقول:"وكل مَصْحَف منها فهو أُمٌّ على حدة"(4).

وجاء في "معجم المخطوط": النسخة الأساس هي النسخة الأم، وهي أيضا النسخة الأصلية عند القدماء (…). والنسخة الشيخة: النسخة الأم أو النسخة المعتمدة، أطلقت في فاس على رواية ابن سعادة لصحيح البخاري (…) والنسخة النموذج هي النسخة الأم في الحقيقة"(5).

ويشرع المحققون عادة بنقل النسخة الأم أولا ( باليد – أو بالآلة الكاتبة، مع تباعد ما بين السطور )، وتُقرأ قراءة متمعنة قصد التمرس بأسلوب المؤلف، ثم تجري المقابلة بينها وبين بقية النسخ الخطية. وبذلك تُصبح أصلا وأُمّاً لسائر النسخ، فتتم المقابلة بها؛ وكأنها منسوخة عنها.

ثالثا: اصطلاح النسخة الأم عند عياض

 إذا كانت المقابلة تقتضي الوقوف عند اختلاف الروايات؛ فإن عياضا عقد بابا لـ"ضبط اختلاف الروايات والعمل في ذلك"، وأكد فيه ضرورة إتقان ذلك الضبط، ومعرفته وتمييزه، وإلا اختلطت الروايات، ووقع الاضطراب في النسخ.

فأمام تعدد النسخ ينبغي أن يتم ترتيبُها، وتُختار واحدة منها؛ تُتَّخَذُ نسخةً أصلية وعُمدة في التحقيق، وأطلق القاضي عياض على هذا الأًصل الذي يُطمأنُّ إليه؛ مصطلح الأم. قال:وأولى"أن يكون الأم على رواية مختصة، ثم  ما كانت من زيادة الأخرى أُلحقتْ، أو من نقص أُعلم عليها، أو من خلاف خُرِّج في الحواشي، وأُعْلَمَ على ذلك كلّه بعلامة صاحبه من اسمه أو حرف منه للاختصار لا سيما مع كثرة الخلاف والعلامات، وإن اقتُصِر على أن تكون الرواية المُلحَقَةُ بالحمرة؛ فقد عمل بذلك كثيرٌ من الأشياخ وأهل الضبط" (6). 

 خاتمة:

الأصل في النسخة الأم أن تكون أقرب إلى روح المؤلف. وبعد أن تُعتَمَدَ أصلا في التحقيق؛ ما زيد عليها وما نقص يُخَرَّجُ في الحاشية قصد التوثيق والتصحيح، وتوضع رموزٌ لاختصار النسخ، وهو ما يُعرف اليوم بهوامش التحقيق.

هـوامـش:



(1) رسائل الجاحظ (  فصل من صدر كتابه في طبقات المغنين) ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون – ط1[ بيروت، دار الجيل، 1991] : 3/135 – 136

(2) أساس البلاغة: الزمخشري ( محمود بن عمر 538هـ)، تحقيق: عبد الرحمن محمود – د.ط [ بيروت، دار المعرفة، 1979]. [ مادة: نصب].

(3) المصباح المنير: الفيومي ( محمد بن علي770هـ) – د.ط [ بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ت ]. [ مادة: نصب].

(4) كتاب الحيوان: أبو عثمان الجاحظ (255 هـ)، تحقيق: عبد السلام هارون: 1/93

(5) معجم مصطلحات المخطوط العربي ( قاموس كوديكولوجي ): أحمد شوقي بنبين – مصطفى الطوبي – ط2 [ المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2004] ( مطبوعات الخزانة الحسنية الرباط)، ص331

 (6) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع: القاضي عياض، تحقيق: السيد أحمد صقر – ط1 [ القاهرة، دار التراث ]، ص 189

ملاحظة:

منبر الرابطة المحمدية للعلماء، العدد 24 ، الأربعاء 23 جمادى الأولى 1432هـ/ 27 أبريل2011م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.