في توقيت لا يخلو من تساؤل واستغراب، وبعد أن قامت السلطات البريطانية بالقبض على شيخ الأقصى " رائد صلاح " واحتجازه لعدة أيام والإصرار على ترحيله قبل انقضاء مدة إقامته ، في هذا التوقيت التي أظهرت فيه انجلترا أنها ما زالت على درب الوفاء والرعاية للكيان الصهيوني سائرة ، وأنها بوعد بلفور ودعم تشرشل مستمسكة ، في هذا الوقت تحديدا ، تعلن انجلترا عن تكريمها لمفتى مصر الشيخ على جمعة المثير للجدل أينما حل ، ومتى تكلم ، فلماذا هذه المعاملة المختلفة ، لشيوخ الإسلام ؟ هذا له الحبس والتضييق والترحيل ، وهذا له التكريم والترحيب والتهليل ؟ وما هي الأسباب التي دفعت انجلترا لمثل هذا السلوك المتناقض ؟
لماذا تقبض على الشيخ رائد صلاح ، وتمنع الشيخ القرضاوي من دخول أراضيها ، وتضع العشرات من الشيوخ والدعاة على قائمة المنع السوداء وفي نفس الوقت تحتفي كل هذه الحفاوة بمفتي مصر ؟ ! .
ـ ففي حفل كبير ، وبحضور ممثلة عن ملكة بريطانيا ، ووسط احتفال مهيب تكريمًا واحتفاءً بدور الشيخ على جمعة في إثراء الحضارة الإنسانية، وتقديرًا لدوره وتأثيره العالمي في نشر ثقافة الحوار والتقارب بين الشرق والغرب، منحت جامعة ليفربول البريطانية الثلاثاء الأستاذ الدكتور علي جمعة- مفتي الجمهورية- درجة الدكتوراه الفخرية في الآداب الإنسانية وذلك اعترافاً وتقديرًا لجهوده الكبيرة كأحد أهم الشخصيات العالمية في نشر التسامح والتفاهم بين الأديان على مستوى العالم ، وقد أقيمت مراسم التكريم ومنح وتسليم الدكتوراه الفخرية لفضيلة المفتي في قاعة احتفالات التخرج الكبرى بجامعة ليفربول بمدينة ليفربول بإنجلترا أمس الثلاثاء في كاتدرائية ميتروبوليتان !!!! بحضور أعضاء من كبار الشخصيات السياسية والدينية الإسلامية والمسيحية بانجلترا .
انجلترا وتاريخ من التكريم المريب
ـ ومع إرهاصات الثورة الصناعية أخذ نجم انجلترا في البزوغ بعد فترة طويلة من الانزواء والانكفاء على الداخل ، وحلت انجلترا محل القوى النصرانية القديمة مثل روسيا القيصرية ، والمجر وبولندا ، ومع دخول القرن التاسع عشر أصبحت انجلترا زعيمة العالم النصراني في حربها المقدسة ضد العالم الإسلامي .
ـ انجلترا امتازت عن غيرها من الدول المعادية للعالم الإسلامي ، بالدهاء والمكر الشديد ، وطول النفس وتنوع أساليب الحرب على المسلمين ، والانجليز أساتذة في الكر والخداع بلا جدال ، فهم عوضوا القلة العددية لجيوشهم ، باستراتيجيات وسياسات استعمارية خبيثة تقوم في الأساس على إحكام السيطرة على بلاد المسلمين المحتلة ، بتفريق الصف المسلم ، وسياسة " فرق تسد " ، وقد عمل الانجليز على بث الشائعات والأكاذيب ، والتحريف والتزوير للتراث الإسلامي ، واستنبات الأفكار الضالة ورعاية أهلها والثناء على أصحابها ، وتشجيعهم وإمدادهم بكل المقومات اللازمة للبقاء والحركة ، وإحياء الأفكار التي من شأنها تفريق المسلمين من قومية ووطنية وعصبية وقبلية ، فأحيوا الفرعونية في مصر ، والفينيقية في الشام والبربرية في بلاد المغرب العربي ، وهكذا دأبهم في كل البلاد المسلمة التي احتلوها .
ـ ومن هذا المنطلق الخبيث في السيطرة والهيمنة وبسط النفوذ أخذ الانجليز بعيون فاحصة في التقاط أصحاب الأفكار الهدامة والنظريات الضالة والمذاهب المنحرفة في بلاد الإسلام ، وتقويتهم ودعمهم ماليا ومعنويا وسياسيا ، ومن ثم بدأت سياسة التكريم الانجليزي الشهيرة ، والتي بموجبها تم تلميع وتعظيم بعض المشبوهين في بلاد الإسلام من أجل الدعاية لهم ولأفكارهم الهدامة التي في مجملها ترقى لفكرة هدم الإسلام واقتلاعه من جذوره ، وكانت البداية مع أحمد خان بهادر ( 1817ــ 1898) وهو رجل التقطته العيون الانجليزية الفاحصة أثناء ثورة المسلمين الكبرى ضد الاحتلال الانجليزي سنة 1857، حيث حمى الكثير من الانجليز من الوقوع في قبضة المسلمين الثائرين ، ودافع عنهم بشدة ، ومن يومها اتصل به الانجليز ، وكان أحمد خان يؤمن بنظريات وحدة الوجود ، والتفسيرات الباطنية لنصوص الشريعة وينكر الجنة والنار والجن وسائر الغيبيات ، ومن أبرز أرائه التي نالت إعجاب الانجليز ومدحهم ؛ رأيه في الجهاد حيث اعتبره لاغيا وباطلا في زمانه ، ولا يجوز جهاد المسلمين ضد الانجليز طالما الانجليز يمنحونهم الحرية الدينية في ممارسة الشعائر من صلاة وصوم ، و قد أفتى علماء الهند بردته وكفره بعد استتابته ، فاحتضنته انجلترا ودعمته ماليا وسياسيا ، واستقبلته ملكة انجلترا بنفسها في القصر الملكي وخلعت عليه لقب سير وذلك سنة 1867 ، ودعمته بمبلغ طائل من المال لبناء جامعة علمية بالهند تهدف لمد لنشر الثقافة الغربية وإزالة الفوارق بين الشعوب .
ـ وعلى درب أحمد خان بهادر سار مدعى النبوة غلام أحمد ميرزا القادياني الذي أخذ أفكار أحمد خان وطورها وزاد في انحرافها ، واعتبر الانجليز ولاة الأمور الشرعيين الواجب طاعتهم ، وألغي فريضة الجهاد والحج والصوم ، وقد روج الانجليز للقادياني واعتبروه مصلحا ومجددا ، وتم تكريمه في انجلترا وخلعوا عليه أيضا لقب سير ، ودعموا الفرقة الضالة التي أنشأها القادياني وما زالت موجودة حتى الآن مثل الخنجر المسموم في آسيا ، وهم من أكبر أعوان الصهاينة الآن هم والدروز والنصيريين في المنطقة .
ــ وفي سنة 1988 ظهر دجال جديد في الإسلام ، وهو الشيطان سلمان رشدي مؤلف كتاب " آيات شيطانية " ربيب المدارس التنصيرية في بومباي ، وخريج جامعة كيمبرريدج الشهيرة ، وقد أحدثت الرواية الشيطانية المليئة بالشتم والقدح في الإسلام ورسوله ، ضجة عالمية وغضب لها المسلمون في كل مكان ، فكيف كان رد فعل الانجليز ، قامت ملكة انجلترا إليزابيث بكل وقاحة وتحدى لمشاعر أمة المليار وربع بتكريم المرتد سلمان رشدي وأعطته لقب " فارس " وهو أعلى الأوسمة الانجليزية ، ومازال سلمان رشدي تحت العناية والحراسة الانجليزية حتى الآن ، وتنفق عليه الخزانة الانجليزية سنويا مليون نصف جنيه إسترليني لحمايته وحراسته ، فانظر كيف يكون التكريم والتقدير !.
انجلترا ومنصب الإفتاء
ـ جدير بالذكر أن منصب الإفتاء في مصر جاء في الأساس بتوجيه وإحياء ومن اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر ، وكان من أخبث الساسة الانجليز في وقتها ، وكان يهدف من هذا إنشاء هذا المنصب وضع الحالة الدينية في مصر تحت السيطرة مع اشتعال المقاومة الإسلامية والوطنية ضد الاحتلال الانجليزي ، ومواجهة نفوذ الأزهر الشريف بهذا المنصب الجديد ، وكان الشيخ محمد عبده رائد المدرسة العقلانية أو العصرانية المتأثرة بالثقافة والحضارة الغربية هو من تم اختياره من قبل اللورد كرومر ليكون أول مفتي في مصر ، فانجلترا صنعت أول مفتى ، وهي اليوم تكرم أخرهم !
ـ مفتي مصر الشيخ على جمعة شخصية مثيرة للجدل لأقصى ما يتخيله القارئ ، فهو صادم لدرجات لا يتخيلها أحد ، عنيفا مع من خالفه في أي مسألة من مسائل الشرع ، عنفا يصل لحد السب والشتم بألفاظ يترفع عنه رجل الشارع العادي فضلا عن أن يكون مفتيا لمصر ، وجاء اختياره ضد إرادة المؤسسات الدينية الرسمية وقتها ، ومعارضة كثير من الشيوخ العلماء لأسباب مرجعية وأخرى تتعلق بشخصيته ،الشيخ على جمعة نسي أنه مفتي لكل المصريين في أمورهم دينهم ، وليس مفتي خاص بطائفته الصوفية أو مذهبه الأشعري فقط ، فهو شديد التطرف والتعصب لأشعريته وصوفيته ، وقد استغل منصبه الجديد في شن حرب لا هوادة فيها ضد التيارات الإسلامية عامة ، وهذا بتكليف واضح وصريح من النظام حسب مقتضيات وظيفته وشكرا لمن جاء به على رقاب علماء وشيوخ الأزهر ، وللتيار السلفي على وجه خاص لعداوة شخصية فجة لكل من ينتمي إلى هذا التيار المبارك ، و حتى بعد الثورة ما زال على جمعة ألد أعداء التيار السلفي وقد سود كتابا صغيرا منذ أسابيع أسماه " المتشددون " حشاه بكل صور التشويه والازدراء للتيار السلفي وألبسهم زورا كل نقيصة ومذمة .
ـ على جمعة كان زبونا دائما على أشهر وأكبر الصحف الأمريكية والإنجليزية ، وهو ما لم يحدث لشيخ أزهري من قبل ـ رسمي وغير رسمي ـ وكانت كتاباته في تلك الصحف عبارة عن إعادة إنتاج مغلف لأفكار أحمد خان وأتاتورك وجارودي وتركز على التقارب بين الأديان والسلام العالمي والإخوة الإنسانية ، والتسامح وزمالة الأديان ، إلي غير هذا من الأفكار التي تطعن عقيدة الولاء والبراء في مقتل ، وتلغي مفهوم الأمة لصالح مفاهيم أمريكية وأوروبية مثل العولمة والحلف الدولي والشراكة الإنسانية ، وفي سبيل تقرير هذه الأفكار وقبوله أمريكيا وانجليزيا ، تكلم جمعة عن عدم وجود حد للردة ، وحرية الكفر والإلحاد ، ولما زاد الإنكار الشعبي ضده نتيجة هذه الفتاوى تراجع عنها ، وقال أنها ترجمت عنه بالخطأ !
على جمعة وتكتيكات ما بعد الثورة
ــ على جمعة شعر بعد النجاح الثورة بأن أوراقه أخذة في الاصفرار ، ,أنه على وشك السقوط ، فهو صنيعة النظام البائد ، جاء به قسرا رغم أنف شيوخ وعلماء الأزهر ، وشعبيته تكاد تنحصر في أتباع الطرق الصوفية فقط لا غير، وكان أشد ما يقتله كمد وحزنا أن الأضواء قد انحصرت عنه بشدة بعد أن كان ملئ السمع والبصر وتتهافت عليه الفضائيات الداخلية والخارجية ، وزاد الطين بلة ما تسرب من خزائن أمن الدولة عن حياته الاجتماعية وكثرة زيجاته العرفية ، بالجملة أصبح على جمعة بعد الثورة كما مهملا ، فأي مشكلة تقع الآن في مصر يستنجد فيها بألد أعدائه ! شيوخ السلفية مثل محمد حسان وصفوت حجازي ومحمد عبد المقصود وغيرهم ، ففكر في كيفية الإستقواء على شباب الثورة ومعظمهم من أتباع التيارات الإسلامية ، وعلى ما يبدو أنه قد أعجب بطريقة البابا شنودة في الإستقواء بأمريكا على نظام مبارك البائد ، فكتب مقالة هي الأفظع والأشنع في تاريخه في جريدة الواشنطن بوست في 25أبريل الماضي أشبه ما تكون برسالة استغاثة واستعداء للأمريكان ضد التيارات الإسلامية في مصر عموما وخصومه السلفيين خصوصا ، حيث وصفهم بأنهم "جماعة متحجرة منعزلة رافضة للحياة معادية للمجتمع وللعالم تسعى لشق الصف ونشر التشدد الديني "واتهم السلفيين بأنهم يشكلون خطرا حقيقيا لأنهم يهدمون الكنائس والأضرحة ، وأخذ في حث الأمريكان على التحرك وذلك بقوله أنه يجب تركيز الانتباه على هؤلاء السلفيين وإيقافهم للحفاظ على سلامة البلد الدينية والاجتماعية والسياسية ، فأي عالم أو شيخ يكتب مثل هذا الكلام الكاذب القبيح ، والذي ثبت كذبه وزوره وبراءة السلفيين من كل هذه الجرائم ، وأي عداوة وشقاوة تدفعه لمثل هذه الخيانة التي ترقي لحد طلب التدخل السافر والصريح في الأمن القومي المصري .
ـ واليوم انجلترا تقوم بنفس الدور الذي قامت به من قبل مع أحمد خان ومن بعده ، انجلترا تتدخل اليوم لانقاذ شعبية الشيخ على جمعة من الانهيار التام ، وتعيد إبرازه وتلميعه إعلاميا ، بمثل هذه الجوائز والأوسمة التي تظن أنها سترفع قدر الشيخ ، وتجعل حكومة ما بعد الثورة ، وشعب ما بعد الثورة يهرعون إليه عند النوازل والملمات ، ويهتف ثوار التحرير باسمه لنجدتهم والدفاع عن مطالبهم ، ولكن الذي لم يعرفه الانجليز ولم يتعلموه أبدا عبر تاريخ تكريمهم المريب للمشبوهين والمضللين ، أن هذا التكريم هو أكبر إساءة ودعاية مضادة للشيخ ، وربما يكون المسمار الخير في نعش على جمعة الطائر !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.