تمهيد:
يطرح أهل التحقيق، قديما وحديثا، مسألة إصلاح ما في المخطوط من خطأ – حسب ما يراه المُحقق – . هل يَتِمُّ إصلاح الخطأ في متن الكتاب، أم يُترك على حاله، ويُنبَّهُ على صوابه في الهامش؟ وما حدود تدخل المحقق، وحدود الأمانة العلمية في ذلك؟
تُرى كيف يكون تدخُّل المحقق حين يتعلق الأمر بآية قرآنية؟ وكيف يتم التعامل معها؟
يطرح أهل التحقيق، قديما وحديثا، مسألة إصلاح ما في المخطوط من خطأ – حسب ما يراه المُحقق – . هل يَتِمُّ إصلاح الخطأ في متن الكتاب، أم يُترك على حاله، ويُنبَّهُ على صوابه في الهامش؟ وما حدود تدخل المحقق، وحدود الأمانة العلمية في ذلك؟
تُرى كيف يكون تدخُّل المحقق حين يتعلق الأمر بآية قرآنية؟ وكيف يتم التعامل معها؟
أولا: التعامل العلمي مع الآية القرآنية
1 - ينبغي أن نُراعيَ قيمة النسخة المعتمدة أصلا في التحقيق، وطبيعتَها حين تُتَّخَذُ "أُمّاً" أي أصلا في اصطلاحات أهل التحقيق. وهذا يدعونا ألا ننخدع بما نعتمده أصلا في التحقيق؛" فإن الفكر يذهب، والقلب يسهو، والنظر يزيغ، والقلم يَطغى"، كما قال القاضي عياض (544هـ) (1).
2 - البَحْثُ عن مصدر الخطأ أثناء إجراء المقابلة بين النسخ؛ فما كان من زيادة أو نقص أو تصحيف، أو تحريف؛ يتم إخضاعه لمقتضيات المنهج المتبع في التحقيق، من حيث الإلحاق أو التنبيه عليه في الهوامش.
3 - يجب أن نتحقق من صحة الآية كتابةً ورسماً حسب وضعها القرائي، فقد تكون النسخة النسخة الأصلية على رواية مختصة بقراءة ما.
4 - علينا أن نُفكر في وجوه القراءات المعتبرة، وأن نُراعيَ القراءات المتعددة، والشاذة منها، فلا حق بالحذف أو الزيادة خارج مقتضيات العلم بالقراءات.
ثانيا: الطريقة الأولى: تُصَحَّحُ الآية في المتن
1 - تُصَحَّحُ الآية في المتن مع الإشارة إلى الخطأ في الهامش؛ إذا كان الخطأ مقطوعاً به في رسم الآية وضبطها، ووقع في المخطوط مغلوطا أو ملحونا.
2 - وبعد تقليب النظر في الاحتمالات الواردة في الأصول حتى لا تكون لها علاقة بقراءة من القراءات؛ ينبغي أن لا نُبقيَ آية ً قرآنيةً مُحرَّفةً في المتن أبداً؛ إذ لا أمانة علمية في أداء النص القرآني على حالته من الخطأ.
3 - وإذا تقرر في تجربة حركة التأليف أنه لا يُصلَح الكتابُ بغير إذن صاحبه، فإن ذلك يكون " في غير القرآن"(2).
4 - في تجربة عبد السلام هارون ذكر أنه كشف أثناء تحقيقه لـ" كتاب الحيوان" عن تحريفات كثيرة، قال إنه لم يستطع إلا أن يردَّها إلى أصلها، ومن ذلك:
- في الجزء الرابع ص7: "فلما أتوا على وادي النمل"، وهي: ?حَتَّى إِذَا أَتَوْا?.
- وفي الجزء الخامس ص 32: "إني مبتليكم بنهر"، وهي ?إنَّ اللََه مُبْتَلِيكُمْ بنَهَرٍ?.
- وفي ص544:" ثم اسلكي سبل ربك"، وإنما هي ? فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكَ?.
وفي مخطوطات كتاب سيبويه، ونُسخه المخطوطة في ثلاث طبعات، لاحظ وُرُودَ الآية الكريمة هكذا: "والذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً والذَّاكراتِ والحافظينَ فُروجَهُم والحافِظاتِ" وصوبها:? والحافظينَ فُروجَهُم والحافِظاتِ والذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً والذَّاكراتِ ? [ الأحزاب:35](3).
الثانية: لا تُصَحُّحُ الآية في المتن ثالثا: الطريقة
1 - لا يجوز التصرف في الآية داخل المتن، إذا كان القصد من إيرادها التدليل على إحدى القراءات؛ ولذا تبقى الآية كما أوردها صاحب الكتاب دون تغيير، ويُشار في الهامش إلى القراءة المشهورة. وعلى هذا النهج حافظ العلماء الأوائل على أصول الروايات. ويكون المعتمد في هذا كله على كتب القراءات (كتب القراءات السبع، ثم العشر ثم الأربع عشرة، ثم كتب القراءات الشاذة).
وذكر القاضي عياض أن الذي استمر عليه عمل أكثر الأشياخ أن ينقُلوا الرواية كما وصلت إليهم وسمعوها ولا يُغيّرونها في كتبهم، حتى في أحرُف من القرآن؛ استمرت الروايةُ فيها في الكتب على خلاف التلاوة المُجمع عليها، ومن غير أن يجيء ذلك في الشواذ(4).
وذَكَّر الدكتور مولاي الحسن العلوي بمثاليْن في كتاب "فتح الباري" لابن حجر، وتولّى الباحث سمير بلعشية استخراجهما وعرضهما من المصدر المذكور:
المثال الأول: حول قوله تعالى: ?يَأَهْلَ الكِتَابِ لاَ تََْغُْلوا فِي دِينِكُمْ?، إلى ?وَكِيلًا? [ النساء:71]، علّق القاضي عياض بقوله:" وقع في رواية الأصيلي(5): ? قل يا أهل الكتاب? ولغيره بحذف ?قل? وهو الصواب.
وعلَّق ابن حجر:" قلتُ: هذا هو الصواب في هذه الآية التي هي من سورة النساء، لكن قد ثبت ?قل? في الآية الأخرى في سورة المائدة: ? قل يَأَهْلَ الكِتَابِ لاَ تََْغُْلوا فِي دِينِكُمْ غير الحق? [ المائدة:77]، ولكن مراد المصنف آية سورة النساء بدليل إيراده لتفسير بعض ما وقع فيها؛ فالاعتراض متجه (6).
فكل من عياض وابن حجر يُسجِّل الخطأ على رواية الأصيلي، ويُنبِّه عليه. ولو كان هذان العالمان بصدد تحقيق رواية الأصيلي – على طريقة أهل التحقيق في زماننا -؛ لأثْبَتَا الرواية الصحيحة في المتن، ونبَّها على الخطأ في الهامش.
المثال الثاني: من كتاب التفسير، باب ?قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِِينَ أَعْمَالًا ? [ الكهف:103]. نجد في هذا الحديث مُصْعَباً يسألُ أباه سعْدَ بن أبي وقّاص هل المراد بالأخسرين أعمالا الحَروْرية (أي الخوارج )، فنفى ذلك. وورد في الحديث:" والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعْد يُسميهم الفاسقين".
وتعليقا على قول سَعْد هذا، قال ابن حجر:
" وفي رواية النَّسائي: " والحَرَوْرِيَّة الذين قال الله ?ويَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ? [ البقرة: 27]، إلى ?الفاسقين?. قال يزيد: هكذا حفِظْتُ.
قلتُ: وهو غلط منه أو مِمَّنْ حَفِظَ عنه. وكذا وقع عند ابن مُرْدُويه (7) " أولئك هم الفاسقون"، والصواب ?الخاسرون?، ووقع على الصواب أيضا في رواية الحاكم (8).
قوله:" وكان سعْد يسميهم الفاسقين"، لعل السبب في الغلط المذكور، وفي رواية للحاكم " الخوارج قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم"، وهذه الآية هي التي آخرها "الفاسقين". فلعل الاختصار اقتضى ذلك الغلط. وكَأنَّ سعْداً ذكر الآيتيْن معاً التي في البقرة والتي في الصف" (9).
رابعا: إذا سقَطَ حرف أو كلمة من آية في المتن
1 - ذهب عبد السلام هارون أنه إذا سقط من الشاهد القرآني بعض حروف أو بعض كلمات، يُحتفظ بها كما أوردها صاحب المتن ولا يجوز إكمالها.
2 - ورأى أن إكمال المحقق للآية في صلب النسخة بذكر الحرف أو الكلمة التي تركها المؤلف يتنافى مع منهج التحقيق؛ بل عليه أن يترك الأمر كما جاء عند المؤلف، مع ضرورة الإشارة إلى ذلك في الهامش؛ إذ التحقيق عنده: " أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ؛ فإن متن الكتاب حكم على المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخية لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير (10).
3 - وأشار إلى صنيع الشافعي في " الرسالة" الذي كثيرا ما يحذف حرف العطف عند ذكر الآيات للاستدلال. ونجد أحمد شاكر في تحقيقه للرسالة يذكر الآية في المتن بدون حرف عطف، وينبّهِ على ذلك في الهامش، على سبيل المثال.
في الفقرة: 974 نجد في المتن الآية ? قاتلوا المشركون كاقَّةً … ?، والتلاوة: ?وقاتلوا?.
وفي الفقرة: 975، الآية: ? قاتِلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ… ?. والتلاوة: ?فاقْتُلُواْ? (11).
خامسا: الجانب الفني في إخراج الآية القرآنية
1 – تنقل الآية من أهم مصحف إلكتروني تتوافر فيه المواصفات العلمية المقررة والمطلوبة.
2 – إذا تعذَّر ذلك نلتزم برسم المصحف العثماني – ما أمكننا ذلك - .
3 - إذا تعذَّر ذلك يتم اختيار أجمل خط، ويُعنى عناية خاصة بضبط الآيات ضبطا تاما؛ بحيث يُشكَلَ ما يُشكل وما لا يُشكل، وذلك تبعا لما تقرر في المصحف.
4 – توضع الشواهد القرآنية بين قوسيْن مُزَهَّرَيْنِ: اسم السورة، ورقم الآية أو أرقام الآيات في المصحف ( ويفضل أن تُكتب داخل المتن بعد المُزَهَّرَيِْْن)، ولاحظ الباحث سمير بلعشية أنه إذا روعيَ العد المناسب للرواية يكون أفضل؛ كأن يكون العد المدني الأخير بصدد قراءة نافع مثلا.
5 – إذا كان السياق يقتضي تفسير ما يناسب المقام في الآية، يُحال للمزيد منه إلى تفسير معيّن يستجيب للمطلوب بشكل مباشر ( العمدة في هذا: كتب التفسير).
6 – إذا كان السياق يقتضي وضع تعليق يُحدِّد نوع القراءة، أَهِيَ من المتواتر أم من غيره؛ يُشار إلى ذلك في الهامش بالقدر المناسب ( العمدة في ذلك: كتب القراءات).
7 – في فهرس الآيات القرآنية - ضمن الفهارس في نهاية الكتاب – تُرتَّبُ السور حسب ورودها في القرآن الكريم، وتُرتب الآيات حسب ورودها في السور: اسم السورة، رقمها في المصحف، رقم الصفحة التي وردت فيها.
هوامش:
(1) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، تحقيق: عياض ( عياض بن موسى 544هـ)، تحقيق: السيد أحمد صقر – ط2 [ دار التراث، القاهرة، 1978]، ص160
(2) المعيد في أدب المفيد والمستفيد: العَلْمَوِيّ (عبد الباسط بن موسى ت 981هـ)، تحقيق: د. مروان العطية – ط1[ مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2004]، ص253
(3) تحقيق النصوص ونشرها: عبد السلام هارون (ت1988م) – ط5[ مكتبة السنة، القاهرة 1994]، ص48
(4) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، ص 185 - 186
(5) الأصيلي: عبد الله بن إبراهيم، نسبة إلى أصيلة بالمغرب، عالم بالحديث والفقه، عُدَّ من علماء الأندلس وحُفاظ مذهب مالك، كتب عن أبي زيد المَرْوزي"صحيح البخاري"، وقرأ عليه الناس كتاب البخاري، ولي قضاء سرقسطة، مات بقرطبة سنة 392هـ: معجم البلدان: ياقوت الحموي (626هـ) - ط8[ دار صادر، بيروت،2010]:1/212 – 213 - سير أعلام النبلاء: الذهبي ( محمد بن أحمد 748هـ)، حقق هذا الجز أكرم البوشي – ط3[ مؤسسة الرسالة، بيروت،2008م] :16/560 – الأعلام: الزركلي (ت1976 م) - ط17 [ دار العلم للملايين، بيروت، 2007م]:4/63
(6) ابن مَرْدُويه: أحمد بن موسى الأصبهاني، حافظ مؤرخ مفسر، له كتاب "التاريخ" وكتاب في " التفسير"، ت 410هـ : الأعلام للزركلي: 1/261
(7) فتح الباري شرح صحيح البخاري – كتاب أحاديث الأنبياء – ابن حجر ( أحمد بن علي 852هـ)، اعتنى به: أبو قتيبة نظر محمد الفريابي – ط3 [ دار طيبة، الرياض، 2010]: 8/60].
(8) نفسه:10/342
(9) نفسه:10/340
(10) تحقيق النصوص ونشرها، ص 47
(11) الرسالة: الشافعي ( محمد بن إدريس 204هـ)، بتحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر – د.ط [ المكتبة العلمية، بيروت،1309هـ]، ص361
ملاحظة: نشر هذا المقال بجريدة منبر الرابطة؛ أسبوعية تصدر عن الرابطة المحمدية للعلماء، ع 19، الأربعاء ربيع الثاني 1430هـ/ 23 مارس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.