تمهيد:
كتب أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538ه ، مقدمة لكتابه "مقامات الزمخشري"، وأضاف إليها ثانيةً باسم "خطبة الكتاب" في شكل مقامة من بين مقاماته. ولطرافة الجمع بين مقدمتيْن: الأولى تحمل اسم مقدمة الكتاب، والثانية اسم خطبة الكتاب؛ سُقتُ هذه المقالة. وهما معاً تكشفان عن إفادات حول الزمخشري ومقاماته من حيث موضوعها وجمالياتها وظروف إنشائها، وما حملته ثانيتُهما من إحساس بمرارة الغفلة؛ وما تجرّعه صاحبها من ألم وحسرة يوم بُتِرَتْ ساقُه. إلى جانب ما ورد في المقدمتيْن معاً من إفادات تتعلق بالكتابة والكِتاب في الثقافة الإسلامية. وفيما يلي وقفة مع كل منهما.
كتب أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538ه ، مقدمة لكتابه "مقامات الزمخشري"، وأضاف إليها ثانيةً باسم "خطبة الكتاب" في شكل مقامة من بين مقاماته. ولطرافة الجمع بين مقدمتيْن: الأولى تحمل اسم مقدمة الكتاب، والثانية اسم خطبة الكتاب؛ سُقتُ هذه المقالة. وهما معاً تكشفان عن إفادات حول الزمخشري ومقاماته من حيث موضوعها وجمالياتها وظروف إنشائها، وما حملته ثانيتُهما من إحساس بمرارة الغفلة؛ وما تجرّعه صاحبها من ألم وحسرة يوم بُتِرَتْ ساقُه. إلى جانب ما ورد في المقدمتيْن معاً من إفادات تتعلق بالكتابة والكِتاب في الثقافة الإسلامية. وفيما يلي وقفة مع كل منهما.
أولا: مع مقدمة كتاب "مقامات الزمخشري"
1 – موضوع الكتاب:
من عادة الزمخشري أن يبدأ كُتُبَه بالديباجة الراسخة في مقدمة الكتاب الإسلامي على امتداد تاريخه الطويل، وكأنه يستبقيها إلى الخطبة الثانية!
وعلى غير عادته بدأ بالدعاء لمخاطبه بالتوفيق، بعد أن تحقق من رغبته في ازدياد العلم وحرصه على الحكمة والنصيحة.
فجاء موضوع مقاماته يتناول الحكمةَ والنصحَ؛ مع بيان ما أُشكل من ألفاظها ومعانيها.
2 - توجيهات للقارئ:
أ - دعا قارئ مقاماته أن يتعمق معانيَ هذه النصائح المبثوثة فيها، وأن يستحضر فكره لفهمها واستيعاب مضامينها.
ب – ودعاه أن يستفيد منها في تقويم أخلاقه وسلوكه؛ إذ "العمل ببعض ما فيها مما يَُهَذِّبُ النفسَ ويُطهّر القلبَ".
ج – ولَفَتَ انتباهَهُ أن لا يُمكِّن من هذه النصائح إلا من يوازيه في صفته أو يُدانيه "من أُولي الفَضْل والديانة".
3 – مسألة تعظيم العلم:
أ- لا يُقدم العلم إلا لمن يستحقه:
من خلال التوجيه الثالث – ج - تحدث الزمخشري عن أهمية العلم في ذاته، وعن ضرورة تعظيمه وتكريمه؛ بتقديمه لمن يستحقونه؛ وبناءً عليه دعا مُخاطَبَه أن يربأ بهذه النصائح " عن أولئك الذين يحسبون أنهم يُحسنون ولا يُحسنون؛ ليكون من العُمَّال بقول عيسى عليه السلام:" لا تَطْرَحُوا الدُّرَّ تحت أَرْجُلِ الخنازير. فإن العلم بِنَقَلَِتهِ يكبَر بِكِبَرِهِم ويَصْغَرُ بِصِغَرِهِمْ".
ب - تعظيم العلم يستدعي جمالية عرضه في المؤلفات:
يقول الزمخشري إنه رأى "من المشايخ من يحتاط في إكرام مُصَنَّفِه حتى لا يرضى له إلا أن يُكتب بخط رشيق، وبقلم جليل، وفي ورق جياد، وأن يُخَطَّ مضبوطاً بالنقط والشكل، فقد قيل: الخَطُّ الحَسَنُ يَزِيدُ الحَقَّ وُضُوحاً".
ج – مسؤولية الناسخ في نقل الكتاب:
يدعو الزمخشري الناسخ " أن يوشح نسختَه باسم المنشئ وتفخيمه والدعاء له بالرضوان والرحمة؛ فإنه أقل ما يستوجبه منه على ما وصل إليه من فوائده". فلا عجب أن يأتي في بداية بعض الكتب اسم المؤلف بكثير من الإجلال والتفخيم، والدعاء والرحمة، وقد يرد في تضاعيف الكتاب في بعض الأحيان.
4 – تنبيهُه إلى الصنعة في الأداء البياني للمقامات:
أ – يدعو الزمخشري قارئه أن لا ينظر إلى أسجاع مقاماته دون تأمُّل لرسوخ قدمه في فن المقامات؛ وفيما يستدعيه هذا الفن من رسوخ وتمكن من لدن صاحبه، وما يكون له من استعداد أدبي قبل إنشائه.
ب – ويُنبّه قارئه إلى ظاهرة التوازي بين الطبع والصنعة وانصهارهما في مقاماته؛ إذ لا تتحقق البراعة في الأداء البياني – في نظره - حتى يتحقق هذا التوازي والتناغم بينهما؛ فلا يقوم بديع بـ" تحسين الألفاظ وتزيينها بطلب الطباق فيها والتجنيس والتسجيع والترصيع … وإلاَّ فَمَا قَلِقَ في أماكِنِهِ، ونَبَا عن موقِعِهِ؛ فَمَنْبوذٌ في العَراء مرفوضٌ عند الخطباء والشعراء".
ج – رغبتُه أن تُقرأَ مقاماته برؤية جمالية:
يرى ضرورة النظر إلى هندسة أسجاع مقاماته وما تنطوي عليه من نكت ولطائف." وما رُوعيَ في مناظمها من روائع الترتيب، وتفهيمك أن كلمات السجع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفا عليها؛ لأن الغرض أن يُجانَسَ بين القرائن ويُزاوَجَ بينها، وما يتم ذلك إلا بالوقف، وإلاَّ ذهبتْ أيادِي سَبَا".
ويختم مقدمة كتابه بالدعاء لقارئه: " أسأل الله أن يُفْعِمَ لكَ سِجالَ النِّعَم، ويُعينَكَ على إفادة أهل الحَرَم، وإفادة الوُفََّاد من أقاصي البلاد، ويُكْتِبَكَ ببركة هذا البيت العتيق في زمرة العُتَقاءِ من النار، ويُثبت اسمَك في جملة الأبرار؛ الذين لهم عقبى الدار".
ويُستفاد من هذا الدعاء، وممَّا ورد في خطبة المقامات – كما سنرى – أن الزمخشري كتب هذه المقامات في الحَرَم المكيّ، قرب البيت العتيق؛ فترة الجوار بمكة المكرمة.
ثانيا: خطبة الكتاب التي جاءت في صورة مقامة
1 – ديباجة الخطبة:
أ – بدأ خطبة الكتاب بقوله:" وأحمَدُه على ما أدَرَجَ من آلائه، في تضاعيف ابتلائه، وما رزَقَنِي مِن دَرِْك الغِبْطَة، بما أذاقني من مَسِّ السَّخْطَةِ".
حَمِدَ الزمخشري الله عزَّ وَجلَّ على نِعَمِه التي توالتْ عليه من فضل ربه، ومن ثمر ألطافه عليه ما ظهر على قلمه من ألوان البيان. وكان في طيات تلك النِّعَم اغتباطُه بنعمة الصحّة بعد ابتلائه بـ"مسِّ السَّخْطَة" يوم بُتِرَتْ ساقُه في حادثة ثلج، وأصبح يُعرف بعدها بالأعْرَج، كما سيتضح.
ب – طلبُه الاستعانة في الاستقامة على سواء السبيل.
ج – طلبُه الاستعاذة من الاستنامة إلى الشيطان وتَسْويله.
د - الصلاة على رسول الله وآله" المبتعث بالفرقان الساطع، والبرهان القاطع".
هـ - يقول عن نفسه أي عن منشئ هذه المقامات :" أنشأها الإمام فخر خوارزم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري"؛ ليُعرَف بها، وتُعرَف به، وتُنسَبَ إليه، ولا تُنسَبُ لسواه.
2 – سبَبُ إنشائه لمقاماته هذه:
قال إنَّ السبب الذي نَدَبَه لذلك أنه جاءه إنذار في لحظة وَعْيٍ حادٍّ:" أُريَ في بعض إغفاءات الفجر كأنما صَوَّتَ به مَن يقول له: يا أبا القاسم أجَلٌ مكتوبٌ، وأملٌ مكْذوبٌ".
فاستيقظ قلقا مروَّعاً، فكتب مقامةً وجَّهها لنفسه؛ دعاها فيها أن تَتَنَبَّهَ من غفلتها، ومن عادة ذُهولها عن جِدِّها بهزْلِها؛ أي أن تستشعر عبَثَ الحال، وخطورة المآل.
وشرَح عبارة "أمَلٌ مَكذوبٌ" بقوله:" كأنَّ النفسَ تقول للأمل لِيَكونَنَّ ما تعلَّقْتَ به، وهي كاذبة في ذلك، ونحوُه قراءة: "ولقد صدَّقَ عليهم إبليسُ ظَنَّهُ" ونصَبَ الظَّنَّ، كأنَّ إبليس قال لظنه:" لأُغْوِيَنَّهُم أجمعين" فكان كما قال".
3 – وجاء الإنذار الثاني في شكل مرضة "مُنْذِرة":
لهذه الخطبة قيمة تاريخية لاشتمالها على معلومات تخص حياة الزمخشري، بعد حادثة إغفاءة الفجر، وما تلاها من ذلك الحادث المروع؛ الذي أسماه: " المرضة المُنذرة".
يقول:" فلما أُصيب في مستهلّ شهر الله الأصم – رجب: لا يُقعْقَعُ فيه سلاح – الواقع في سنة ثِنْتيْ عشرةَ بعد الخمسمائة بالمرضة الناهكة؛ التي سمّاها المُنْذِرة؛ كانت سبب إنابته وفَيْئته، وتَغَيُّر حاله وهيْئته". ويستفاد من هذا أمران:
أولهما: التاريخ الذي حاصره فيه الثلج فتسبب في بتر ساقه، وكان ذلك في مستهل رجب سنة 512ه، فعاش على حالة العَرَج ستاً وعشرين سنةً.
ثانيهما: كانت "المُنذرة" سبب إنابته، وهو يرى ذلك في تَغَيُّرِ حاله وهيئته من المشي المعتاد إلى العرَج ما بقي من حياته.
4 – فما الميثاق الذي أخذه على نفسه إثر "المُنْذِرة"؟
أ – " أخذ على نفسه الميثاق لله إنْ مَنَّ الله عليه بالصحة أن لا يطأ بأخمصه عَتَبَة السلطان…
ب – وأن يَرْبأَ بنفسه ولسانه عن قَرْض الشعر فيهم، ورفع العقيرة في المدح بين أيديهم، وأن يَعِفَّ عن ارتزاق عَطِيَّاتهم، وافتراض صلاتهم…
ج – ويجِدَّ في إسقاط اسمه من الديوان ومَحْوِه.
د – وأن يُعنِّفَ نفسَه ما استطعمَتْ في ذلك فيما خلا لها في سِنِّي جاهليتها…
هـ - وأن يعتصم بحبل التوكل ويتمسك، ويتبتل إلى ربه ويتنسك، ويجعل مسكنه لنفسه مَحْبِساً، ويتخذ لها مُخيَّساً"؛ أي سجناً.
تلك كانت مظاهر الغفلة في حياته: حين وطِئَ بأخمصه عَتَبَةَ السلطان، وارتزق عطياته، وكُتِب اسمه في ديوانه. واستشعر في لحظته هذه أن مصابه جاء نتيجة وضع أخمصه في بيت السلطان؛ فضاع منه أخمصُه! ورفع العقيرة في مديحه ؛ فصار يرفع عقيرته أي رجله وهو يصيح من الألم والحسرة!
5 – فكيف ستصير وجهته العلمية بعد"المُنذرة"؟
أ – لا يُدرِّسُ من العلوم إلا ما له جدْوى، ممَّا يدعو دارسَه إلى الهدى، ويردَعُه عن مُشايعة الهوى.
ب – أن يُعنى من علوم القراءات والحديث وأبواب الشرع ما به يُقصَدُ وجهُ الله تعالى، وخدمة الدين.
ج - وأن يضرب صفحاً عن العلم "ليتخذَه أُهبةً للمباهاة، وآلةً للمنافسة، ويتسوَّر على اقتباسه إلى الحظوة عند الخائضين في غَمَرات الدنيا والتَّسَمِّي بين ظَهْرانِيهم بالفاضل والتلقُّب بالبارع، وذَريعةً إلى ما نَزَعَ يدَهُ منه".
د – أن يتوب التوبة النَّصُوحَ؛ فلا يعود إلى ما كان عليه، حتى يرجع اللبن إلى الضرع! " وحين أتاح الله له الصحة التي لا يُطاق شكرُها وألْطَفَ له في الوفاء بما عهِدَ… انتدب للرجوع إلى رئاس عمله في إنشاء المقامات التي تمّمَها خمسين مقامة؛ يعِظُ فيها نفسه وينهاها أن تركَنَ إلى ديْدنها الأول؛ بِفِكْرٍ فيه وذِكْرٍ له، ويأمُرها أن تَلَجَّ في الاستقامة على الطريقة المثلى".
وأنهى خطبته بأمريْن:
الأول: ما يعود على قراء مقاماته ومُقتبسيها "بجليل النفْع وعظيم الجدوى، في بابيْ العلم والتقوى، من انتقاء ألفاظها، وإحكام أسجاعها وتفويف – توشية – نسجها، وإبداع نظمها، وإبداعها المعاني التي تزيد المستبصَر في دين الله استبصاراً، والمُعتبَر من أُولي الألباب".
الثاني: دعاء الختم: يسأل الله عز وجل أن تَلقى القَبول من القلوب، والإنصات من الأسماع، وأن تسير في البلاد،" وأن يستنطق مَن طرأت عليه من أفاضل المسلمين بالدعوة الطيبة لمنشئها، والترحّم على مقتضبها. واللهُ تعالى مَرجوُّ الإجابة، لمن يسألُه من أهل الإنابة" [ص، 11 - 15].
وفي الختام أقول:
حملت هاتان المقدمتان إفادات تتعلق بشيء من حياة الزمخشري، وخاصة ما تعلق منها ببتر ساقه في حادثة الثلج.
فكانت هذه المقامات عبارة عن أنّات وجَّهَها إلى نفسٍ دمّرتْها الحسرة؛ لِماَ ران عليها من الغفْلة؛ فاضطرمتْ تلك الأنات في صورة نصائح لمن يريد أن ينتصح. هذا إلى جانب ما تحمله المقدمتان من إفادات تتعلق بصيانه العلم وتعظيمه في نقله وكتابته، وبحديث الزمخشري عمَّا استشعره تجاه مقاماته بما تنطوي عليه من جماليات وأداء فني خاص.
المصدر:
مقامات الزمخشري - ط1[ الكتب العلمية، بيروت، 1402م].
ملاحظة:
منبر الرابطة المحمدية للعلماء، العدد 28، الأربعاء 14 جمادى الثانية 1432هـ/ 25 مايو 2011م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.