بسم الله ، والصلاة والسلام على رسول الله .. الحمد لله الذي رفع لنا في كل ثغر علماً ، وأجرى لنا في جوار كل بحر ما يضاهيه كرما ، وجعل في هذه الأمة من المسلمين إلى اليوم من يزيد الناس علما ويمحو من الظلمات ظلما .. أما بعد ،،
لم يزل من القضاة من هو عاملٌ في هيبة زاجر ، وجلال رحيم .. مرشدُ في وقار حاكم ، ولطف حكيم ، ولم يزل محراب العدالة ، أمان الخائفين ، وموئل المستضعفين ، ورهبة العاتيين ..
ولم تزل وظيفة القضاء بالمسلمين آهلة الصدور ، كاملة البدور .. هذه الوظيفة التي لم تكن ، ولن تكون جلوساً للحكم ، أو فصلاً بين الخصوم فقط ، إذ الأمر أكبر من ذلك !!
لما بلغت الأندلس مبلغها من التفكك والانهيار في الستٍ وخمسين عاماً من حكم ملوك الطوائف ، وحاقت بها الأخطار ، إذ قسا ملوك الطوائف على رعاياهم ، وأثقلوا كواهلهم بالضرائب والجبايات ، ولم يكن يردعهم وازع ديني ولا أخلاقي ، فتربص الرومان بالدولة الإسلامية في الأندلس ، فاستولوا على بعض الأرض ، وأذاقوا المسلمين صنوف العذاب ، وكان ملوك الطوائف في غفلة عن هذا ، إذ هم في الملذات غافلون ، لما آل الحال بالأندلس إلى ما تقدم ، اجتمع أربعة نفر ؛ ثلاثة من قضاة الأندلس ؛ أبو بكر عبيد الله بن أدهم ؛ قاضي قرطبة ( 416 : 486 هـ ) ، وأبو جعفر أحمد بن خلف - المعروف بابن القليعي ؛ قاضي غرناطة ( ت 498 هـ ) ، وأبو إسحاق بن مقانا ؛ قاضي بطليوس ، ورابعهم وزير المعتمد بن عباد ؛ أبو بكر بن زيدون ، وركب أربعتهم البحر في اتجاه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين - مؤسس دولة المرابطين في المغرب ، وقد سبقتهم إليه وفود مستنجدة باكية ، طالبين منه نجدتهم ، لمحاربة المعتدين ، بشرط أن يبقي ملوك الطوائف على ملكهم ، وألا يحرض عليهم رعيتهم ، وأن يرجع إلى وطنه إذا كتب الله لهم النصر ، فعاد الوفد بعد أن أدى مهمته ، التي كللت بالنجاح إذ لبى ابن تاشفين مطالبهم ، وعاد بعد النصر إلى المغرب موفياً بعهده ألا يتدخل في شئون ملوك الطوائف ، وألا يثير عليهم رعاياهم .
وعندما طلب الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل ، من الفقيه مصعب بن عمران أن يتولى القضاء اشترط على نفسه فقال ؛ ( ونفسي طيبة عليك لصلاح أمور المسلمين ، ولو وضعت المنشار على رأسي لم أعترضك ) ، فولي القضاء .
وأما العلامة الفقيه قاضي القضاة ؛ ابن دقيق العيد المصري ( 625 : 702 هـ ) العلم المشهور ، صاحب العلم المنشور ، فإنه كثيراً ما يورد المؤرخون أنه غضب من والي مصر ، لأجل أمرٍ يهم الناس ، فيعزل نفسه عن القضاء ، ثم يسترضى فيعود ، على سبيل المثال يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في ( البداية والنهاية ) ؛ ( وفي ربيع الأول غضب قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد وترك الحكم بمصر أياماً ثم استرضى وعاد ) ، بل الأمر أعظم من ذلك ؛ فقد عزل نفسه يوماً لأجل أمرٍ من ذلك ، ثم طلب ليولى فأبى ، فجاءه السلطان الملك المنصور لاجين واقفاً على مسافة من باب داره ، فصار يمشي إليه ابن دقيق رويداً رويداً ، والوزراء يقولون له ؛ السلطان واقف ، فلما التقى بالسلطان قبل السلطان يده ، فقال ؛ لعلك تنتفع بهذا .
وفي ( إبريل 1986 م ) وقف شيوخ القضاء في مؤتمر العدالة الأول بمصر ، هاماتهم عالية ، وهممهم سامية ، يطالبون بإصدار مشروعات قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية ، ومراجعة سائر التشريعات لتتفق في أحكامها مع مبادئ الشريعة ، وأن يواكب إصدار تلك التشريعات وتنفيذها تهيئة المناخ العام الملائم في مجالات التعليم والتربية والإعلام والثقافة والتكافل الاجتماعي وغيرها من المجالات ، وإلغاء التشريعات الاستثنائية والمحاكم الاستثنائية ، وإلغاء نظام المدعي العام الاشتراكي ، والنص في القانون على حظر تسليم المواطن المصري إلى دولة أجنبية ، وغير ذلك من توصيات عظيمة وجادة انتهوا إليه .
إن وظيفة القضاء لم تقف يوماً عند حد إقامة العدل ، ونصرة المظلوم ، والأخذ على يد الظالم ، بل إنها لتتعدى إلى حماية الحريات وحفظ الحرمات من كل حيف وجور واعتداء يقع عليها من الحكام قبل المحكومين ، وهذا من صميم عمل القضاة ، ولم يكن يوماً انشغالاً بالسياسة التي يحرم القانون الاشتغال بها ، فقواعد الشرع التي تقتضي أن يسامح الجاهل ، بما لا يسامح به العالم ، وأنه يغفر له ما لا يغفر للعالم ، إذ حجة الله عليه أقوم منها على الجاهل ، وعلمه بقبح المعصية وبغض الله لها وعقوبته عليها أعظم من علم الجاهل ، ونعمة الله عليه بما أودعه من العلم أعظم من نعمته على الجاهل ، فلزم أن يقابل من العتبِ بما لا يقابل به من ليس في مرتبته ، وتقتضي أيضاً أنه بقدر الخصائص والمُكنات التي يودعها الله عز وجل في بعض العباد ، وبقدر الاستطاعة تأتي التكاليف ، فيلزمون بما لا يلزم به غيرهم .
وتدخل القضاة في شؤون السلطة لا يشكل تحايلاً على التشريع أو خروجاً عليه حيث يعتبره البعض عملاً سياسياً ، فأمر السلطة بالخير ونهيها عن الشر واجب ، وتوجيها بما يحفظ وحدة الأمة ويدرأ عنها الأخطار واجب ، ورفض الظلم والتصدي له واجب ، وانتقادها وعدم تنفيذ أوامرها إذا خالفت الشرع والتشريع واجب ، بل والثورة بالأساليب السلمية عليها من أجل الإصلاح واجب ، كل ذلك باعتباره عملاً من أعمال حماية الحريات وحفظ الحرمات .
هذه هي وظيفة القضاء .. فمن لسداد ثغرها .. يعيد أيامها ، ويكون كافياً فيما يهم من أمرها !! قائماً بين رجالها وفي معاقلها ، بما يزيد حسنها ومعالمها !! يحقق النصر بلا سلاح ، ويثير الذعر بلا رماح !! من يتضوع بنشر العدل في يمنى كفه القلم ، وعلى لسانه تجري بحار العلم والحكم !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.